اضطرابات تفارقيّة في مشهد الهوية

يحاول هذا النص أن يعاين اللجوء السوري من منظور نفسي؛ بشكل أدق، أن ينظر في تشتت الهوية الجمعية الناتج عن التبعثر السوري في العالم ويناقش تقاطعات نتائج هذا التشتت والاضطرابات التفارقية أو الانفصالية (sredosiD evitaicossiD)

يتحدّث النص عن رحلة الهوية الجامعة ويفترضها شخصاً أو كياناً (لأني أريد أن أتفادى الحديث بصيغة المفرد الغائب الذكر كما هو شائع.)

سيتخلل هذا النص اقتطاعات. لن تمثّل هذه الاقتطاعات استمرارية موضوعيّةً للنص (وهو المطلوب)، بل ستؤدي دوراً وظيفياً يتماشى والموضوع الأساسي (الاضطرابات التفارقية) أو ما يسمى الاقتطاع.

أذكر أنّ المحاضرة يومها كانت عن الاضطرابات التفارقية. كما أذكر، لتناقض الأمر، أن تركيزي كان حاضراً دونما انقطاع على غير المعتاد، ولأن هذا الحدث العابر اليومي شاء أن يبقى عالقاً في الذاكرة أو أن يتحول لنصّ ضمن دعوة استكتاب حول “السرديات السّورية”، صادف أن يكون تاريخ هذا اليوم هو ذاته تاريخ خروجي وعائلتي من سوريا قبل عشر سنوات. عقدٌ مرّ على ذكرى الاقتطاع الأول في حياتي، كما كثر غيري لم تسنح لهم الفرصة بأن يكملوا سيرورتهم دونما خلل.

يتخلل السرديّة السورية حدثٌ لمّا تتبلور نتائجه بعد على ماهية ما يدعى بـ “الهوية السوريّة الجامعة”، ألا وهو المغادرة الجمعية لسوريا، حيث أننا ما زلنا – على تنوّعنا – نعاين عن بعدٍ أبعاد هذا الحدثِ، لأننا، ولحتمية التجرّبة، نجسّد النتائج وننتظر أن نعيش استقراراً ولو كان بسيطاً على الصعيد الخارجي والداخلي، كي نقدر أن نسبر أغوار ما حدث.

تقول البروفيسورة إن الاضطرابات أو الأعراض التفارقية ترتبط بشكل وثيقٍ بحدثٍ تراوماتي دون القدرة على مواجهته أو استيعابه، ليكون الخروج من الموقف، ولو عقليّاً، الوسيلة الأفضل لحماية الذات من أثر هذا الحدث. وفي ظل حكمٍ دكتاتوري في سوريا امتدّ قرابة الخمسين عاماً تكثّفت فيه سياسات القمع والصّدمات النفسية الناتجة عن العنف، الفقد، أو حالة الذعر المستمرة، لم تكن حركة الخروج مجرّد حدثٍ عارض، بل جزء من كلٍّ سياسي، اقتصاديٍّ ومعيشي لمن لم ينسجموا مع الصيغة المعطاة مسبقاً لكيفية التصرف تحت حكم الأسد. الأمر بسيطٌ، اضطرت هوية المكانِ الجامعة في لحظة ما لأن تغادر، لأن تتبعثر في مختلف أماكن العالم دونما تحضير؛ حدث الأمر فجأة، على عجلٍ وبشكل حتميّ تاركاً وراءه مئات الآلاف من الأفراد (الهويّات الفرديّة) تتخبّط في احتمالات الغد، وتمثّل في ذات الوقت الاقتطاع الذي حصل، تجسّد التغييرات الناتجة عنه.

اقتطاع أول:

في ساحة جامعتي المستقبليّة

الفتاة الشقراء التي تقفز على حبل،

الشاب الذي ينشز بصوته صمتي،

شجرةٌ اتكأت عليها،

حبات المطر الخفيفة،

الشمس الخجولة،

غياب صوت الحرب،

تفاصيلٌ مثقلةُ بالغياب، والبعد. تفاصيل غريبة

وأنا – في الحنين –

كنت أحاول ثني الهواء لأختفي. 

وجدت هذا النص مؤخراً في إحدى دفاتري، وانتابني شعورٌ بالوضوح حينما قرأته، كأنني أقرأ رسالةً عابرةً للزمن منّي إليّ. ثني الهواء للاختفاء، غرابة التفاصيل المحيطة، والميل إلى تشويهها والانسلاخ عنها، ما هي إلا دلالات الانفصال الذي حدث، خصوصاً وأن عمري حينها كان شهرين فقط بعيد المغادرة. 

تشمل الاضطرابات التفارقية أعراضاً كانفصال عن الذات (noitazilanosrepeD) أو انفصال عن المحيط حيث يعاش كغير واقعي أو مفهوم (noitazilaereD) . أعراض يمكن استشفافها في كثير من التعابير المستخدمة من شفاه سورية في التعبير عن واقعها اليومي، كالشعور بالانفصال عن الجذر، أو الشعور بفقدان جزءٍ من الذات وسط تفاصيل مكانية تبدو بعيدةً رغم قربها المادي وكأنما الفرد يقطن عالماً مزدوجاً: حاضرٌ غير مألوف لمّا يغدو أليفاً لطيفاً بعد، وماض لمّا “يكتمل” بعد؛ لا يأنف أن يكون قريباً رغم بعده. في الترحال ما بين التفاصيل المألوفة والمفروضة تغدو هذه الهوية الجمعية عرضةً للتعب، عرضةً للتنافر في مكوناتها، لا كلل في محاولاتها اختبار شعور الاستمرارية الذي يبدو دوماً أقرب مما هو عليه في الواقع.

الذاكرة السورية تضمر يوماً بعد يوم، تغدو أبعد وأفقر تفاصيلاً، بالرغم من محاولاتها الدؤوبة بأن تحضر من خلال استعمال أصناف بهارات، زيارة موسيقى قديمة، زراعة نباتاتٍ محددة على “البلكون” أو إضفاء “طابعٍ سوري” على مكان السكن. تبقى هذه المحاولات هزيلة، غير مجدية في الإقناع بأن ما نعيشه اليوم هو امتداد بما عشناه قبل الخروج. على سبيل المثال، في الأشهر الثلاثة الأخيرة وحدها سمعت وقرأت ممن ذهبوا بزيارة قصيرة إلى سوريا بعيد سقوط نظام الأسد بأن الشاورما هناك لها طعم مختلف تماماً، وهذا طبيعي بكل تأكيد، أقصد أنّ الذاكرة الأبعد زمنياً ستصبح على كل حالٍ أضعف في لحظة ما، لكنّ الذاكرة حين يتخللها حدث يعطّل استمراريتها ويقسمها نوعياً إلى “ما قبل” و”ما بعد” الحدث، تضطرب، لا إرادياً، في محاولاتها للوصول لما هو هناك على الضفة الأخرى من هذا الحدث، من المغادرة، كما هو الحال في الاضطرابات التفارقية حيث تبدو الأحداث وكأنما تنتمي إلى “زمنٍ ضائع لا يعود”[1]، إلى عالمٍ مختلف كنّا فيه هويّات شديدة البعد عن الآن، تظهر في ومضات وصور مشوشة غير قادرةٍ على أن توحي، أو تمنح شعوراً بالاستمرارية. الأمر لا يمثّل نسياناً طبيعياً، ويغدو مؤلماً، صارخاً وحدثاً جللاً حينما نعود إلى المكان، إلى سوريا، ولا نجد أنفسنا.. لأننا لم نستمر. نشعر بالاغتراب، نحن من نهيم على وجهنا جماعةً في بحثنا المستمر عن ذواتنا المشتركة.

كذا هو الأمر أيضاً في الاضطرابات التفارقيّة؛ يصبح الجسد الذاتي غريباً. يحتاج وقتاً وجهداً لكي يبقى أو يعود مألوفاً وقد لا يعود، كما تنظر الهوية السورية المغادرة إلى ذاتها سابقاً كحدثٍ ضبابي لا متجانس مع سيرورة الواقع الحالي، كأمرٍ حدثَ في مكان ما لم أعد أشبهه أو يشبهني، لكنّه يرافقني في صفاتٍ كاسمي مثلاً أو لغتي الداخلية. اغترابٌ آخر. اغترابٌ داخلي حين تعود الهوية السورية إلى الجغرافية السوريّة لتجد أن العملة أصبحت غير مفهومة، وأن الطرقات تغيّرت والحيّ التي ترعرعت فيه قد اكتسب صفاتٍ جديدة خاليةٍ من أثرِها. تدرك الهوية حينها أن الانفصال لا يتعلق فقط بمفهوم الوطن كمساحة ماديّة، بل يمتد إلى الشعور بفقدان “الجسد السوري” ما قبل الاقتطاع، ما قبل المغادرة؛ بمعنى أن الذاكرة الجسدية – الإحساس بالشوارع، الأصوات، الروائح – تستدعي الاستمرارية وتبهت مع الزمن دونها. تدرك الهوية حينها أن شعور الانتماء يتمنى أحيانا وبحزن عميق لو أنّ شيئاً لم يتغير، لو أنّه قد عاد إلى ما تركه ليجده على حاله.

اقتطاع: كتبت هذا النص القريب جداً من قلبي حينما عدت إلى انتمائي في لحظة ما ولم أجده:  

حاذري “المضي”، الطريق شديد الانتحار

الانحدار

الانحدار

حاذري “الحياة”، الطريق شديد الانحدار

الانتحار

الانتحار

حاذري المضي، الطريق شديد الانحدار

الحياة!

الانتحار؟

حاذري الحياة، الطريق شديد الانتحار.

الطريق!؟

تصل البروفيسورة في شرحها عن الاضطرابات التفارقية إلى تلك حيث يعيش الشخص بعدة هويّات تختلف فيما بينها بالتواصل مع المحيط، أي في طريقة التفكير، في الوجدان، في اللغة وأسلوبها، في الذاكرة المرافقة، في التصرفات والانفعالات، ليجسّد هذا الانتقال بين الهويّات المختلفة آليّة عكسيّة دفاعية للبقاء، لمواجهة الواقع، للتكيّف مع سياقاتٍ مختلفة قد تتناقض فيما بينها. في التجربة السوريّة نجد أن القفز ما بين الهويَات وفقاً لمعطيات المحيط يكاد يكون تلقائياً من المنظور الفردي لضرورته في الانسجام مع التفاصيل، لكنّه يجسّد في ذات الوقت الانقطاع الذي نصادفه ونتكلّم عنه دوماً في الاضطرابات التفارقية. أيضاً من منظورٍ خارجي، من منظور الآخر، الهوية السورية التي لم تغادر تصنّف تلك التي غادرت بأنها بعيدة نوعيّاً وتمثّل اختلافاً. كما هو الحال بالنسبة للهويات السورية المغادرة، فالهوية السوريّة – الألمانية تختلف عن السورية – التركية، أو الهولندية، أو الأردنية والبرازيلية في حيواتها اليومية، لغاتها، مشاعرها ومختلف تفاصيلها حدّ الانقطاع.

اقتطاع بعيد هروب الأسد:

صديق: يا ريت فينا نبدّل الأماكن، اللي ضلّو جوا يطلعو عشر سنين لبرا، يعيشو اللي عشناه، واللي طلعو لبرا يرجعو لجوا سوريا عشر سنين، يتحمّلو اللي تحمّلوه اللي ضلو. كل ما فكر باللي بقيو بشعر بخجل واحترام هائل بسبب اللي اضطرو يتحملّوه. لا كهربا، لا مي، ولا أي مقومات للحياة. طبعاً ما عم قول انو هون بالخارج كنّا عم نعيش نزهة. بس اللي عاش غير اللي سمع.

صديقة: ما بدي حدا يحكي عني، انا ضلّيت بالبلد وعشت اللي ما عاشوه كتار هلق يلي عم يحاولو يحكو عني وعن تجربتي.. تجربتنا كلنا يلي بقينا. من بعد ما صار عندن المصادر والوسائل انهم يطورو من حالهم برا جايين بعد سقوط النظام ياخد مساحات أصوات يلي ضلو. مش عدل هالشي، ولا بدي حدا يقلي عن معاناة البيروقراطية والعنصرية والعيشة بالمجتمع الأبيض لما فيك تشحن موبايلك وتدفي حالك ايمتا ما بدك. بكره اللي بيفرضو عليي بحديثن صيغة ما أنا عشت شي مختلف عنها. لازم نعترف بهاد الاختلاف ونشوفو ونصدق انو ما عنا نفس التجربة.

سيحتاج الأمر الكثير من الصبر والجهد والحوار المستمر لكي تتكوّن صورة أوضح لماهيّة ما يدعى بهوية المكان الجامعة، وما يزيد الأمر صعوبةً هو غياب المساحة للتفكّر في ممارسة التنوع الإثني، الطائفي أو العرقي للمجتمع السوري في حقبة حكم الأسد الأب والابن على حدّ سواء، حيث دأبت جهود السلطة إلى صبغ “الهوية الوطنية” بلون الحزب الواحد، دونما إعطاء الفرصة للمكونات المجتمعية المتغايرة بأن تتفق أو تختلف حتى فيما بينها لكي تعطي نتاجاً ما. “التجانس” المفروض كان قسرياً، خاضعاً للخوف من التغييب من قبل السلطة في حال الحياد عمّا ارتآه حكم الحزب الواحد صحيحاً، حتّى أصبح الخوف ربّما هو العنصر المشترك الأوحد على امتداد الجغرافية السورية؛ جمعنا لكنّه فشل في أن يوّحدنا. كما أن هذا التجانس المفروض عمد على إقصاء “قانوني” لمكوّناتٍ مجتمعية من القدرة على التأثير في الحياة السياسية – حال وجدت – كما أنكر مكنونات هويّات ثقافية عديدة، كما هو الحال فيما يتعلق بالمكوّن الكردي أو الفلسطيني-السوري على سبيل المثال لا الحصر ودون الخوض في تفاصيل إضافية، لأن هذا الموضوع يتطلب نصّاً مفصّلا آخر.

تتحدث البروفيسورة في نهاية المحاضرة عن أساليب العلاج للاضطرابات التفارقية، وتركّز على أهمية السّرد لدوره في ترميم القطع وإضفاء شعور باستمرارية الهوية، بتناسق وتكامل مكوناتها التي أوصلت إلى الآن. في التجربة السوريّة يبقى الأمر مشابهاً، بل وملحّاً أكثر من أي وقت مضى منذ اللجوء، منذ الثورة، منذ استلام الأسد الأب، منذ خروج المستعمر الفرنسي؛ المجتمع السوري بحاجة أن يتكلم، أن يدخل في حوارٍ صبورٍ ليعاين هول المصيبة وليعيد ترميم ما خُرّب دونما عناية منذ 2011 على أقلِّ تقدير، بل وليكوّن للمرّة الأولى ربما نواة هويّة جامعة منصفة لجميع مكوّناتها. الأمر ليس “بسهولة” سردٍ زمنيٍّ للماضي، بل هو أقرب لحياكة نسيجٍ من التجارب، والمشاعر، والاكتشافات والنتائج المستقاة من هذا الألم كله كي نصل إلى سياقٍ ما في ظل هذه الفوضى، كل نعرف ما فقدنا وما اكتسبنا، وكي نكرّم ذكرى من فقدنا؛ من قدّموا أنفسهم/ن كي نصل إلى هذا اللحظة.

في حالات الانفصال، تحاول المعالجة النفسية تكرار اسم الشخص بهدوء، كي يعود إلى اللحظة الآنية..

لنكرر أسماءنا بهدوء

لنكرر أسماء من رحلوا بهدوء

لنكرر وجودنا بهدوء

لنصل معاً

بهدوء.


[1] درويش

صورة الغلاف © أوس حويجة، ٢٢٠٢