كل نظام استبدادي بحاجة إلى بعبع

في كل سردية سلطوية، هناك دائمًا حاجة لعدو. فالسلطة التي تبني استقرارها على الخوف لا تزدهر إلا بوجود “بعبع” خارجي أو داخلي يبرر القبضة الأمنية ويمنحها شرعية زائفة. في كثير من السياقات الاستبدادية، يصبح الناس أسرى معادلة تبدو محكمة: سلطة تحذرهم من الفوضى، ثم تُنتج هذه الفوضى لتثبت أنها ضرورة.

ضمن هذا السياق، لعب النظام السوري، منذ بدايات حكم حافظ الأسد، على صناعة هذا العدو المتخيل، مستعملًا الفقر والخوف وسيلة لفرض الطاعة. في قرى الساحل مثلًا، لم يكن الاستثناء عن سائر البلاد في عمق التهميش أو مستوى التنمية. بل كانت هناك منهجية واضحة: إبقاء المجتمعات الفقيرة في حالة عوز دائم، مع تقديم رأس النظام كحامٍ و”منقذ” من خطر دائم، لا يُعرّف لكنه يُلمّح إليه.

هذا الشكل من السيطرة لم يأت فقط عبر الترويج لأعداء خارجيين أو محليين، بل عبر تفريغ المؤسسات الاجتماعية والدينية من أي استقلالية. شيوخ الطائفة، كما غيرهم من الشخصيات المؤثرة، إما تم استبدالهم بأشخاص موالين، أو جرى تحييدهم بالقمع أو التهديد. وفي الوقت نفسه، كانت السجون تمتلئ بالمثقفين والفقهاء وحتى بعثيين سابقين ممن لم يوافقوا على مسار الأسد الأب، ما أجهز على أي محاولة لبناء خطاب موازٍ أو بديل داخل الدولة أو المجتمع.

ومنذ ذلك الحين، وُضعت أسس استراتيجية تقوم على تشتيت كل أشكال المقاومة المحتملة، لا بالقوة الأمنية وحدها، بل بزرع الشك والخوف داخل النسيج الاجتماعي نفسه. لم يكن الانقسام محصورًا بين مكونات مختلفة، بل داخل المكون الواحد. ففي حالات عديدة، تم عزل أو تخوين أو نبذ أفراد فقط لأنهم حاولوا تقديم تصور مختلف، حتى لو لم يكن سياسيًا بالمطلق.

في ظل هذا النظام، لم تكن التجربة اليومية للمواطنين متشابهة، بل كانت متناقضة بشكل يصعب تصديقه. فبينما قد يُعتقل شخص بلا سبب واضح، قد يخرج آخر من أحد أسوأ فروع الأمن دون أن يُمسّ. هذه التفاوتات ليست حالات فردية فقط، بل جزء من سياسة ممنهجة لتفكيك أي إحساس عام بالعدالة أو الاتساق، ولإبقاء الجميع في حالة ترقّب، يشكّون في بعضهم البعض، ولا يثقون حتى في تجربتهم الخاصة.

كان يمكن لجارك أن يختفي فجأة، بينما تعود والدتك من فرع أمني دون أن تُمسّ. وتُرك المجتمع ليُفسّر هذه الفروقات من منطلقات طائفية أو أخلاقية أو ولائية، في حين كانت السلطة تغذّي هذه الفوضى المقصودة في تصنيف الناس ومصائرهم. هذه الفوضى لم تكن عارضًا، بل أداة أساسية لإبقاء الجميع في حالة خوف دائم: من الآخر، ومن الدولة، وأحيانًا من أنفسهم.

النظام لم يكن فقط يراقب الخارج، بل أعاد تشكيل الداخل، فجعل التدين أمرًا مشبوهًا، والانتماء المختلف عبئًا، والحديث في السياسة مغامرة غير محسوبة. وقد ساعد في ذلك نزع الشرعية عن كل مؤسسة أو مرجعية بديلة: سواء دينية أو فكرية أو حتى مجتمعية. هذا الأمر لم يكن مقصورًا على طائفة أو بيئة، بل طال عموم السوريين بدرجات متباينة، بحسب موقعهم من منظومة الولاء أو تهمتهم المفترضة.

في هذه الظروف، بات كثيرون يفكرون فقط في قوت يومهم، يخشون التغيير لأنه قد يستدعي الفوضى التي يُقال إن النظام وحده يمنعها. وهكذا، استثمرت السلطة في الندرة، في الخوف، وفي تجويع لا يقتصر على الخبز، بل يمتد إلى المعنى والكرامة والخيارات.

في روايته الرسمية، قدّم حافظ الأسد نفسه على أنه “ابن الفقراء”، رجل خرج من قرية متواضعة ليحمل همّ الجماهير المهمشة. لكن الواقع أظهر مسارًا مختلفًا: استخدام ممنهج للفقر لا لمحاربته، بل لترسيخه. في الساحل السوري، حيث تنتمي بيئته الاجتماعية، لم يشهد الناس مشاريع حقيقية للنهوض الاقتصادي أو تنمية مستدامة، بل بقيت القرى بلا ماء، والفرص معدومة، والزراعة خاسرة، وكأن هناك إرادة بإبقاء الناس في خيار واحد: الالتحاق بالمؤسسة العسكرية، لا طلبًا للمكانة بل للعيش.

بهذه الطريقة، أعيد تشكيل العلاقة بين السلطة والمجتمع، ليس على أساس الحقوق، بل التبعية. من يدخل الجيش، أو ينتقل إلى المدينة، يجد نفسه في الهامش مجددًا: في العشوائيات، في مساكن لا ملكية لها، في فضاء رمادي لا يُحاسب فيه على البناء المخالف إلا حين تريد الدولة أن تُذكّره بموقعه. فيتم التساهل حينًا، والتهديد بالهدم حينًا آخر، لتظل الرسالة واضحة: وجودك مرهون بولائك، وأمانك الشخصي مشروط ببقاء هذا النظام.

لم يكن ذلك حكرًا على أبناء الساحل، بل امتد لاحقًا إلى كل المحافظات، حيث أصبحت الدولة هي المشكلة، ثم تُقدَّم كحل لها من خلال رأس النظام نفسه. هي التي تهدم، ثم تُوقف الهدم بأمر مباشر منه؛ هي من تُطلق يد الأجهزة، ثم يطلّ الرئيس بطمأنته الفارغة، ضامنًا الحماية الشخصية لمن يرتجفون من فروعها.

في هذا المشهد، تحوّل المجتمع إلى كتلة من المعلّقين في الهواء، لا يملكون أرضًا يقفون عليها سياسيًا أو اقتصاديًا. أصبح الناس أدوات في مشهد يُدار بخيوط الخوف والانقسام، بينما يُعاد إنتاج الولاء تحت وهم “الأمان”، وتُستدعى الطائفة حينًا كدرع، وتُترك للفقر حينًا كعبء، في علاقة لا يحكمها ميثاق واضح، بل منطق النفوذ والمصلحة.

حين تولّى بشار الأسد الحكم، بدا في البداية وكأنه يحمل وعود التغيير، أو على الأقل لغة أكثر نعومة من تلك التي ميزت عهد والده. لكن سرعان ما تبيّن أن جوهر النظام لم يتغير، بل أعيد إنتاجه بأساليب تبدو مختلفة ظاهريًا، فيما الجوهر واحد: البقاء في الحكم مهما كلّف الأمر.

ورث بشار أدوات السيطرة ذاتها، وأُحيط برجال “العهد القديم” الذين حافظوا على الخطوط العريضة التي رسمها حافظ الأسد. كانت أولى قراراته رمزية: هدم لمساكن الفقراء في حي الورود بحمص، دون اكتراث لمن يعيش فيها، ثم تراجع إعلامي يُظهره كبطل أعاد الحق لأبناء طائفته، متدخلاً شخصيًا لإيقاف القرار ومعاقبة المسؤولين عنه.
هذه الديناميكية – صناعة المشكلة باسم الدولة، ثم تقديم الحل باسمه الشخصي – أصبحت نمطًا متكرّرًا في إدارة العلاقة مع الجمهور، داخل الطائفة وخارجها.

بشار، مثله مثل أبيه، لم يكتفِ بالقبضة الأمنية، بل عمّق فكرة الانقسام داخل المكوّن الواحد. داخل الطائفة العلوية، لم يكن مسموحًا بقيام أي مرجعية دينية أو فكرية مستقلة. محاولات علماء الطائفة لتأسيس مجلس أعلى، كما لدى بقية الطوائف، أُجهضت. بعضهم تعرّض للسجن أو النفي أو الإقصاء، واستُبدل بوجوه أمنية أو حزبية تخدم الخط الرسمي.

ومع الوقت، أصبح من يعبّر عن رأي مختلف عرضة للتهميش أو التخوين أو حتى التكفير داخل مجتمعه، لا من السلطة فحسب، بل من محيطه أيضًا. هكذا جرى تحويل الطائفة إلى فسيفساء مفككة من العشائر والتكتلات، لا يجمعها مشروع، بل الخوف من التفكك. المعارض العلوي، حين يظهر، لا يواجه السلطة الأمنية فقط، بل أحيانًا وصمة مجتمعية مضاعفة، تكاد تجعله غريبًا في بيئته، قبل أن يكون خصمًا للنظام.

هذه السياسة – القمع من الداخل قبل الخارج – جعلت من فكرة التغيير السياسي مسألة محفوفة بالتكلفة في كل الاتجاهات. ليس فقط على مستوى الطائفة العلوية، بل في عموم البلاد، حيث عُمّم منطق الطاعة، وغُذّيت ثقافة الخوف، وتحوّل الأمن إلى معيار الولاء، فيما ظلت الهويات الأهلية أداة للفرز، لا وسيلة للتنوّع.

في النهاية، لم يكن الهدف الحفاظ على تماسك اجتماعي، بل ضمان تفكّك دائم تحت السيطرة. وهكذا، بقيت السلطة قائمة على التهديد لا على الشرعية، وعلى إدارة الصراعات لا حلّها، لتظل راية البعث مرفوعة – لا على العدالة أو الكرامة – بل فوق أكتاف فقراء، حُرموا حتى من حق الاعتراض.