Category: مدونات

  • عن القوة البشرية، والخوف، وسوريا

    عن القوة البشرية، والخوف، وسوريا

    لماذا اخترنا أن نعيش معاً مادام كل شخص هو أذىً للآخر؟
    سأنطلق بسؤال، وستتضمن هذه التدوينة عدة أسئلة. لكنها ليست أسئلة امتحان ننتظر إجاباتها، بل دعوة للتفكير المشترك في الأسئلة التي تجمعنا كبشر، وفي القصة السورية التي لا يمكن اختصارها بجواب واحد، لأن عملية التساؤل في جوهرها عملية مستمرة وغير ثابتة.
    السؤال الذي دفعني للكتابة يراودني كل مرة يُقتل فيها إنسان، أو يتصرف البشر كما لو أن غايتهم الوحيدة هي فرض السيطرة.
    لماذا اخترنا أن نعيش معًا إذا كان كلٌّ منا يشكل خطراً على الآخر؟ لماذا لم نتفرق منذ البداية ونعيش كلٌ بمفرده؟ لماذا اجتمعنا إذا كان ما نفعله هو الاقتتال ومحاولة القضاء على بعضنا؟
    تجاوزنا اليوم عصر الغابات حيث كانت الأسود والدببة تهدد حياتنا عند الشرب، لكننا اليوم نواجه مخاطر من نوع آخر، أقل وضوحًا، وربما أكثر تعقيدًا. ومع ذلك، نمتلك في المقابل متعة أكبر في أن نكون مع بعضنا البعض، نبني علاقات ونؤسس جماعات.
    فالبشر، مثل باقي الكائنات، لم يجتمعوا من أجل الاقتتال، بل لحماية بعضهم البعض. ومن خلال هذه الحياة المشتركة نشأت الروابط الاجتماعية، واكتشفت المواهب، وارتفع متوسط العمر، واتسعت دائرة الأمان لتشمل حتى الحيوانات.
    لذلك يلحّ عليّ السؤال عن قوة الجنس البشري، قوتنا فعلياً كجنس؟ ما الذي يميزنا ويجعلنا ننجو ونتطور؟ وما الخاص فينا؟ لأننا من منظور الطبيعة لسنا مميزين كثيراً: لا نملك مخالب أو أنياب، ولا نطير أو نعدو بسرعة، بل وحتى جسدنا هش مقارنة بالحيوانات أو الحشرات كنملة يمكنها أن تحمل عشرة أضعاف وزنها.

    نحن أيضاً لا ننتج غذاءنا ذاتياً بل كنا نطارده. بتتبع الفرائس وصيدها وبالتقاط الثمار وجمعها، عملية الصيد نفسها كانت مقامرة يومية، مواجهة خطيرة مع وحوش أقوى منا، كان كلّ يوم هو حرب صغيرة جديدة، ومع ذلك صمدنا. بل وزادت تعقيداتنا ومتطلباتنا وبدأنا نخلق الرفاهية، لم نعد نأكل نيئًا، بل بدأنا نطهو الطعام، ما تطلب وقتاً أطول وجهداً أكبر. أضف إلى ذلك أننا لا نتكاثر بسرعة، ولا نتأقلم جينياً كالكائنات الدقيقة، وهذا عدا على أن حياتنا تقتصر على التواجد فوق اليابسة، محيدين بذلك 70% من كوكب الأرض عن إمكانية العيش فيه.
    فما هي قوتنا إذاً؟
    في السابق، لم يكن البشر “Homo” جنساً واحداً. كان هناك أنواع متعددة من البشر، من ضمنهم النياندرتال” Homo Neanderthal”، والهومو سيبيانز” Homo Sapiens” الذين ننتمي إليهم، ولكي يبقى نوع واحد فقط، قضى السيبيانز على أقربائهم النياندرتال””. كيف حدث هذا؟ كيف استطاع جنس أن يقضي على جنس آخر كان مماثلًا له في البنية والقدرات؟

    الذكاء، ربما فالذكاء البشري علامة فارقة بحياة الجنس بأكمله، فطهو الطعام الذي لم يوفّر لنا الوقت كان يوفّر لنا مساحة للتفكير بتقليل حجم الفك، الأمر الذي سمح لأدمغتنا أن تنمو وتتطور وتصبح أكثر قدرة على التفكير واكتساب المهارات، ببساط طهو الطعام ساعدنا لنكون أذكياء.
    هذا الذكاء سمح لنا باختراع الأدوات، ونصب الفخاخ، والتخطيط. ولكن هل كان يكفي أن نملك الأدوات؟، فما زالت الأسود والدببة في الخارج وتستطيع قتل الفرد بضربة واحد حتى لو كانت جريحة، فالذكاء لم يكن وحده كافياً. ما الفائدة من رمح يخترعه شخص واحد ولا يشاركه مع المجموعة؟ أو من صائد غزال لا يراقبه أحد من الخلف؟ الذكاء يحتاج الجماعة، لا قيمة للاختراع إذا لم يشارك، ولا معنى للحيلة إن لم تُحمَ وتُدعَم، وهذا التواصل والتجمع والتفاهم هو ما يميز الذكاء البشري، هو أول خطوة في تطور البشرية عبر التجمع وتشكيل مجتمعات صغيرة.
    كنا بحاجة لبعضنا البعض: لحماية الأطفال، والاعتناء بالمرضى، للتكافل في مواجهة الخطر. لم يكن أحد ينجو وحده. لذلك، لسنا أقوياء، ولسنا خارقين، نحن فقط أذكياء معاً.
    وبفضل هاتين القوتين “الذكاء والجماعة”، استطعنا أن نتطور ونوفر فرص نجاة لفئات لم يكن لها مكان في عالم البقاء للأقوى “المرضى، العجائز، وحتى الضعفاء” جعلنا الحياة أكثر راحة وتعقيداً في آن معاً. ومع كل هذا، بدأ وعينا يتطور، بدأنا ندرك ذواتنا و اختلافاتنا، وأصبح كل فرد يحمل كيانه المستقل ويدرك اختلافه، وقد يكون هذا الوعي أسرع من قدرة عقولنا البدائية على استيعابه.
    وخلال مسيرتنا هذه رحنا نتطور فكرياً، وندرك وجود ذواتنا وأن كل فرد هو كيان مختلف عن الآخر، وربما كان هذا التطور-تطور الوعي والإدراك أسرع مما يمكن للعقل البدائي وللاوعي استعايبه، ومازلنا حتى اليوم نتعامل مع الشقين معاً في الحيتة اليومية سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك.
    كان المحرك الأساسي لاستثمار قوانا بجانب غريزة البقاء هو الخوف، فلو لم نكن نخاف من الحوش في الخارج كيف كنا سنطور الأدوات والاستراتيجيات لحماية أنفسنا؟، لو لم نكن نخاف من الوحدة كيف كنا سنقوي علاقتنا الاجتماعية ونرعى المرضى والضعفاء؟.

    ولو لم يخف الجنس البشري من النياندرتال لما قضى عليهم. لقد رأيناهم كمنافسين، ليس لأنهم أعداء، بل لأنهم كانوا مشابهين جدا لنا، يمتلكون ما نملك تقريباً، وربما كان ذلك هو مصدر القلق الحقيقي، أن يكون هناك من يشاركنا ذات القوة، فهم تهديد حقيقي ولأننا فهمنا القوة بوصفها سيطرة، رأينا فيهم تهديداً، واخترنا القضاء عليهم. ولكن، هل كان النياندرتال خطراً حقيقياً؟ هل لم يكن هناك خيار ثالث؟ هل حقاً لا بد أن نختار بين الهيمنة أو الفناء؟ هل خذه هي حدود تفكير البشر عند الخوف؟
    رغم أن التاريخ يخبرنا أن السابينيز والنياندرتال تزاوجا، وأنجبا نسلاً غير عقيم، أي أن هناك فرصة كانت لبناء علاقة، لكن لم يتمسك بها أحد. لو اجتمعت قوة السيبيانز مع قوة النياندرتال، ماذا كان سيحدث؟ كم من القوة خسرنا فقط لأننا خفنا منها؟
    ما الذي جعلنا نحصر الخيارات بين السيطرة أو الموت، أليست هذه فكرة منبعها الخوف؟، فلو نظرنا للإنسان وسط غيره من الكائنات ووسط الطبيعة بتقلباتها غير المفهومة نراه يقف عاجزاً أمام هذه المصاعب غير قادر على فعل شيء، ولكن هذا الخوف الفائض كان لدى الإنسان البدائي الذي لم يجد إلا بفرض السيطرة وبفناء الآخر وسيلة لتحد الخوف، فماذا عن الإنسان المعاصر اليوم؟
    الخوف، رغم أنه بديهي وطبيعي، كان وما يزال مفتاحًا لفهم تصرفاتنا، وحتى اليوم، لا يزال هناك ثلاث ردود فعل محفوظة في أدمغتنا من مواجهة الخطر: الهرب، الجمود، أو المواجهة.
    ربما ما نفعله اليوم، سياسياً واجتماعياً، ليس إلا إعادة تكرار لهذه الخيارات الثلاثة، ولكن بشروط وظروف مختلفة فاليوم لا نواجه دب أو وحش بل نواجه رصاصة تهدد أماننا، تخيل لو أننا لا نخاف من الرصاص؟

    بإمكاننا إسقاط هذه التساؤلات على الحالة السورية، فهنالك من اختار الهرب وتخفى وراء الصمت، اختفى من الحياة العامة أو من البلاد، وهنالك من جمدّ في مكانه يصفق ويهتف اتقاءً للخطر خوفاً من أن ينقض عليه الدب/ الأسد، كما فعل مع الفئة الثالثة التي اختارت مصارعته وتحديه ومواجهته،جميعهم، في الحقيقة، دفعتهم مخاوفهم لاتخاذ خياراتهم.
    تاريخياً، لم تكن سورية دولة حرة أو مستقلة تماماً. كانت جزءاً من إمبراطوريات وممالك أكبر، ولطالما كان الحكم يهمش بعض الفئات والمكونات الاجتماعية ويميز بعضها عن الأخرى فالسوريون لطالما وجدوا أنفسهم أمام قوى أكبر منهم يخافون منها، ثم انتُدبت من الاحتلال الفرنسي، ثم دخلت في سلسلة من الانقلابات، ثم قامت الوحدة مع مصر التي همشت الإقليم الشمالي واستنزفته، حتى وصلت إلى النظام الأسدي، حيث طُمست قوة الجماعة وتحوّلت قوة العقل إلى سلاح فردي أناني.
    بمعنى أن سوريا لم تستخدم قوة الجماعة منذ 2000 عام، وبقيت قوة الذكاء تستخدم للنجاة الفردية، وعلى الرغم من ترديد الشعار “الشعب السوري واحد” فهو ليس إلا أمنية، لأن الواقع لا يقول ذلك. وربما لا يجب أن نكون “واحداً” أصلاً، بل فقط جماعة تعيش معاً رغم اختلافاتها.

    لكن هذه الأمنيات ليست بالأمر السهل، ولا يمكن أن تُبنى الجماعة دون مواجهة أسئلة مؤجلة منذ قرون: ما هي الهوية السورية؟.
    وكيف نرسمها؟ بل، ما هي سوريا التي ننادي بها أساساً؟
    العقل وحده لا يكفي للإجابة، فكل سوري قد يملك تعريفاً مختلفاً، لكن الجماعة، إن وُجدت، يمكنها أن تحمي هذه التعددية وتحتضنها، وتخلق من 21 مليون تعريفاً جامع لكل أصواتنا، حامل لكل رؤية من رؤانا، يحترم كل آرائنا وتعددنا و اختلافاتنا، تعريف يجعل هويتنا الفردية تزدهر وتنخرط في روح الجماعة.
    القوة الجماعية اليوم لا يجب أن تكون كما فهمها أجدادنا: تطابق، سيطرة، وإقصاء. بل يمكن أن تكون شراكة وتنوع يحترم الجميع، قوة الجماعة اليوم ماعادت كما فهمها السابيانز، ليس كلّ من لا يشبهنا هو خطر علينا وتهديد، بل الجماعة تزدهر بتنوعها.
    وما علاقة كل هذا بالصراع في سوريا؟ ببساطة، لأن السوريين بشر، ولأن العنف سلوك بشري، والهوية البشرية هي أقدم وأعمق هوياتنا. لا يمكننا فهم ما يحدث دون أن نُعيد النظر في طبيعتنا نحن أولاً، وأن نفهم العنف في تكويننا بعيداً عن الصور النمطية.
    جميعنا نتنفس الهواء ونتناول الطعام، ونحتاج الأمان والراحة، كذلك جميعنا نشترك بتاريخ مدفون داخلنا يعمل بطرقه الخفية، فالهوية البشرية هي أقدم هوية نمتلكها جميعنا وكل ما ننتجه ننتجه لأننا بشر مهما اختلفت البيئة “سورية، هندية..إلخ”

    هذا لا يعني إنكار الهوية السورية، بل العكس: هو بحث حقيقي عنها، وتحرير لها من الخرافات والأحكام الموروثة. وربما، فقط ربما، نمتلك اليوم الفرصة التي لم يمتلكها الهومو سيبيانز: أن نختار ألا نكون قتلة، بل أن نكون جماعة تسمع وتحمي وتبني.

  • جامع الجكارة

    جامع الجكارة

    تكبير!!!
    الله وأكبر!!!
    لم تعد تلك الكلمات (فقط) لدعوة المسلمين إلى تجديد الوصال مع الله في المساجد، بل أصبحت نقطة لإسكات الكلمات وردع القول، أو سلاحًا يستخدمه اتباع المنتصر في سوريا والذي تقمص دور الثائر المتدين، المهيمن، العزيز، الجبار.
    من قصر الشعب السوري، حيث فرد عماماته وتقلّد مقاليد السلطة، تحولت هذه الكلمات إلى الحل الأوحد والإجابة الأفضل على كل الأسئلة الوجودية والمصيرية المطروحة — البلسم الذي يداوي الجراح والسم الذي يقتل المعتدين. أينما ولّيت وجهك، وكيفما هربت، ستلاحقك مقاطع الفيديو، حيث التكبيرات تترى بعد كل كلمة، وكل سؤال محق، ساذج، مقنع…… لا يهم شكل ومعنى السؤال، كل الإسئلة تُختصر أجوبتها بالتكبير. على صفحات الفيسبوك، الإنستغرام، التيك توك؛ لا أعرف إلى أين أهرب من تلك المقاطع وتلك الكائنات الرقمية، حيث أصبح التكبير يُفزع ويفرق ولا يجمع.
    لم يكن المشهد في قصر الشعب مجرد تعديل او تحول سياسي وعسكري، بل تحولًا جوهريًا في ملامح المستقبل السوري؛ فبتحول قصر الشعب إلى مركز لفكر ديني مُؤدلج، لم يعد الشارع السوري بمنأى عن هذا التحول، بل بدأ تبني هذا المنهج تدريجيًا كعنوان للنجاة والضمان الانتماء. ومع مرور الوقت قد تتسرب هذه العقيدة من القمة إلى القاعدة، مُعيدة تشكيل وعي جمعي للجماهير، لا كخيار، بل كضرورة وجودية في ظل سلطة تعتمد الثوب الديني المُرشح بدماء مصدرًا للقوة والسيطرة.

    تطرق باب فضولي الكثير من الأفكار والأسئلة، تلحّ عليّ بالنقاش، تبحث عن منفذ للحوار مع أبناء بلدي، لعلنا نجد طريقًا يقودنا إلى حيث وصل العالم من حولنا. لكن مع من؟
    إذا كان الكثير ممن يعتقدون أنهم “أقضّوا مضاجع السلطة وأحكموا عليها بمخالبهم” لا يرغبون بنفض الغبار عن أدمغتهم ولا الخوض في أي حديث جاد. بل يختصرون كل الإجابات بشيفرات مستفزة:
    (الله وأكبر، وين كنت من 14 سنة، اللي بحرر بقرر، أمويّة، تكبير).
    تلك الشيفرات ليست مجرد كلمات أو شعارات عابرة، بل أدوات خطاب موجه، اعتقد أنها تُبث بوعي كامل، لتمرير رسائل خفية(أو علنية) تحاول التأكيد على واقع السيطرة والتفوق. عبارة مثل “الله وأكبر” لا اعتقد انها تقال هنا باعتبارها تعبيرًا دينيًا، بل تصريح استعلائي يراد منه الإشارة إلى أن من يملك الصوت، يملك الحقيقة، والحق. قولنا كقول الله، نحن الأكبر، لايرد على قولنا سوى بالطاعة والقبول.

    لماذا هذا الإصرار على الاستفزاز؟
    لماذا يتخذون من التحدي الساذج منهجًا، حيث لا حوار ولا منطق بل شعارات جوفاء تعانق الأثير كصدى أجوف؟
    لماذا تُطرز شبكات الاستفزاز من خيوط الدين المنقوع في سم العُرف والثقافات الشعبية؟
    قادتني تلك الأسئلة إلى نبش ذاكرتي، حيث ترقد صورٌ متفرقة، إذا ما تجمعت رسمت خرائطَ ونصبت مشانق من حبال حدود خفية. صراع البقاء بين ثقافاتٍ متنافرة، تقسم إلا أن تُظهر أسوأ ما لديها، لتكلل ذلك البقاء بمياه ضحلة لا تُبحر فيها سفينة النجاة ولا تروي عطش الثائر المنتظر، المعتصم في ساحات الجامعات ودور الثقافة.

    تُشكّل السياسة والدين الركيزتين الأساسيتين في بناء ثقافات المجتمع السوري، أو ربما الغطاء الذي يخفي تحته تنوّع هذه الثقافات وتحولاتها العميقة عبر الحقب التاريخية التي مرّت بها سوريا. غير أن هذا التنوع، بدلاً من أن يكون مصدر غنى، كان في كثير من الأحيان ساحة للصراعات، حيث لم تكن المواجهات بين الأديان والطوائف انعكاسًا لاختلافات عقائدية فحسب، بل كانت أدوات تُحركها المصالح السلطوية، وتُغذّيها حسابات القوى المتصارعة.
    فالتاريخ السوري مليء بمحطات وظِّف فيها الدين لخدمة السياسة، حيث استخدمته السلطات ورقة رابحة لاستمالة القلوب، وبنفس الوقت لرسم حدود الخوف والارتياب بين أبناء البلد الواحد. كان على السوري، إن أراد الحفاظ على بيته وأرضه اللذين نشأ عليهما، أن يكون حذرًا، أن يلتزم الصمت، وأن يمارس انتماءه في الخفاء، وكأن وجوده مرهون بمدى قدرته على تفادي “الآخر” الذي قد يُنظر إليه كخصم بحكم اختلافه في العرق أو الدين. وهكذا، تحوّلت الهوية في سوريا إلى حقل ألغام، لا أحد يعرف متى يحترق فتيله وينفجر.

    أما أنا، فلم أكن يومًا حرًا، بمفهوم حرية الشباب. لم أكن أرتاد أماكن السهر، ولم أكن أتسكع في الشوارع الخالية بحثًا عن لحظات لهو عابرة. لكن، في نهاية الفصل الدراسي بجامعة حلب، شعرت برغبة غامضة في العودة إلى المنزل مشيًا، وكأنني كنت أدرك – دون وعي – أنني في يوم ما سأشتاق إلى هذه الشوارع، وسأحلم بالسير فيها كأنني غريب.
    في ذلك اليوم، كانت المدينة تنفض عنها ضجيج النهار، والأضواء الشاحبة المنبعثة من المحال القديمة تلقي بظلالها على الأرصفة. كنت أراقب وجوه العابرين، بعضهم سارعين، وبعضهم تائهين في أفكارهم. كنت أتلمّس حجارة الطرقات وكأنني أحفر هذه اللحظات في ذاكرتي، لأحملها معي حيثما قادتني الأيام. لم يكن المشي مجرد خطوة جسدية، بل كان استعادة صامتة لعلاقة منسية مع مدينتي، التي كنت أخشى أن تسرقها الأيام مني، كما سرقت من غيري أشياء أعزّ من المدن.
    في ذلك اليوم، وبعد انتهاء آخر محاضرة لي في الجامعة، قررت العودة إلى المنزل مشيًا على الأقدام. لكن عند مفترق الطرق في ساحة سعدالله الجابري، تهت في طريقي، حتى وجدت نفسي في حي يُميّزه معلم بارز: جامع التوحيد ذو الأربع مآذن، وخلفه حديقة صغيرة. على طرف تلك الحديقة، انتشرت أكشاك تبيع بضائع متنوعة.
    شعرت بالعطش، فتوجهت إلى أحد الأكشاك حيث وقعت عيني على قنينة ماء داخل البراد. أخذتها ثم تقدّمت نحو البائع لدفع ثمنها. كان رجلًا مسنًا، أبيض اللحية، يرتدي الزي الإسلامي وعلى رأسه قبعة مفرغة تُعرف في سوريا بـ”العرقية”. عرفت أن اسمه أبو معروف عندما ناداه أحد الأشخاص من الكشك المجاور.
    بعد أن دفعت ثمن القنينة، هممت بالمغادرة، لكن سؤالًا راودني فجأة، فأعدت النظر إلى أبو معروف وسألته دون مقدمات:
    سعد: هذا جامع التوحيد، صحيح؟
    أبو معروف: نعم، وإذا بدك، فهو أيضًا جامع “الجكارة”.
    استغربت الاسم وسألته عن معناه، فضحك وقال:
    أي، لا تستغرب! هذا الاسم ليس رسميًا، لكنه شائع بين الناس. بدأ الحديث عنه في الثمانينات، عندما طرحت فكرة بناء المسجد. لا أعرف بالضبط من كان وراء بنائه، لكن قيل إن الفكرة قوبلت باعتراضات، لأن المنطقة ذات أغلبية مسيحية وتضم أربع كنائس قديمة ومهمة.
    سعد: من الذي اعترض تحديدًا؟
    أبو معروف: أهل المنطقة، والذين يعملون في الكنائس هنا. وقتها، قيل إن أحد أعضاء مجلس الشعب وبعض الشخصيات النافذة رفعوا الأمر إلى الرئيس حافظ الأسد، وهو الذي أمر ببناء الجامع بهذا الشكل: أربع مآذن، بعدد الكنائس، وكل مئذنة عليها أكثر من عشرة مكبرات صوت.
    سعد: لكن لماذا الإصرار عليه؟ هل كانت المدينة بحاجة لمسجد آخر؟ ولماذا لكل كنيسة مئذنة؟

    ابتسم أبو معروف وقال:
    قلت لك، “جكارة”!
    سعد: أوف!
    وبكل هذه العلنية؟
    أبو معروف: هناك تفسيرات أخرى، لكن هذا ما أعرفه.
    ضحكت وقلت:
    أحلى ما في هذا البلد أن لكل شيء قصة، لا شيء يحدث صدفة.
    ضحك أبو معروف أيضًا، صافحني مودّعًا، ثم غادرت وأنا أفكر في المسجد بين مشكك ومصدق لكلامه، متأملًا تلك المآذن ومكبرات الصوت المرتكزة عليه، واحاول رسم تلك المسافات بين مآذن الجامع وقبب الكنائس المحيطة به. راودني سؤال حول التدخل السياسي في الدين، وكيف تستخدم السلطة بعض الرموز الدينية لفرض توجهات معينة. إذا كان هذا رأي رجل مسلم مثل أبو معروف، فكيف كان مسيحي من سكان الحي سيروي القصة؟
    لم يكن من السهل مغادرة المكان، لكن سيارة أجرة توقفت أمامي، مما شجعني على المغادرة. وبينما كنت أستعد لركوب السيارة، لفت انتباهي مشهد غريب: فتاة تخرج من الحديقة خلف الجامع، وجهها مغطى بمساحيق التجميل بشكل مبالغ فيه، وملابسها ضيقة تكشف تفاصيل جسدها، فيما تستند إلى رجل يحمل بيرة وسيجارة. أثناء مرور السيارة أمام الحديقة، لمحت مشهدًا أوسع من الداخل، بدا وكأنه أشبه بحانة مفتوحة للمراهقين وعشاق الغرام المأجور.

    ظل المشهد يلاحقني حتى بعد مغادرتي، وكأن الحي بكل تناقضاته حمل معه قصة أخرى، كنت مفرداتها ترن في مسمعي وتطوف في فكري، لكن هذه المرة كانت عن لسان رجل مسيحي تضرب جذوره في أعماق هذا البلد ك شجرة مصفرة بعض اوراقها ومحترقة بعضها من غيظٍ تعكرت مائه منذ زمنٍ بعيدٍ ولم تُرشح بعد.

    اليوم، في ظل السلطة الجديدة، المؤدلجة لصالح دينٍ وفكرٍ واحد، أجدني أتساءل:
    أين هو أبو معروف الآن؟ وما هو شعوره؟
    ماذا عن حراس الكنائس الأربعة وراعيها، وعن أهل تلك المنطقة الذين ضجّوا يومًا بفكرة تشييد جامع الجكارة؟
    كيف يرون المشهد اليوم وقد اتسعت الشروخ في كل مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية، حتى بات اللون الواحد والمذهب الواحد يحكم قبضته على هذه الفجوات، محصّنًا بروح السلطة الجديدة؟
    هل ستصبح كل جوامع سوريا نسخًا من جامع الجكارة، حيث يُعاد تشكيل الدين ليكون أداة نفوذ أكثر وضوحًا من أي وقت مضى؟
    هل ستتحول مقاعد البرلمان إلى منابر تشبهه، حيث تُفرض رؤية واحدة، تمامًا كما تحوّلت أماكن العبادة إلى ساحات لصراع المصالح؟
    ربما لم يعد السؤال عن الجامع بحد ذاته، بل عن البلاد بأسرها: هل لا يزال هناك متسع للتعدد، أم أن سوريا كلها في طريقها لتصبح “جامع الجكارة”؟

  • حين تُسرق الأحلام

    حين تُسرق الأحلام

    عندما أقف أمام الكلمة، أجدني في حيرة من أمري. أي قصة أروي؟ هل أروي عن علاقتي مع الأرض واللغة، تلك العلاقة السّامة المتأرجحة بين الحب والخذلان؟ أم أسرد حكايا دروب اللجوء والهجرة، دروب الشقاء والاكتئاب؟.

    ماذا لو تركتُ فيان الطفلة تروي قصتها؟ عن يومها الأول في المدرسة، عن صوت المعلمة الغاضبة وهي تزعق بكلماتٍ لم أفهم منها شيئاً، كلماتٌ كأنها طلاسم نزلت فجأة على رأسي.

    يومها، اكتشفتُ أن لغتي الأم مكروهة، بل ومرفوضة، وممنوعة. ومنذ ذلك اليوم البعيد من الطفولة بدأتُ أولى خطوات الاغتراب عن المكان الذي كان يُعتبر وطناً.

    وبينما أغوص نحو مناطق مهجورة من الذاكرة، تتدافع أمامي صورٌ كثيرة، صور لا تروي فقط حكايتي أو حكاية شعبي، بل حكايةً بحجم الوطن.

    هذه القصة لا تخص فرداً واحداً أو عائلة واحدة ، بل هي عن جيل كامل، عن أرض احتضنَتهم يوماً ثم لفظَتهم بعيداً، عن وطنٍ أصبح غريباً لأبنائه قبل أن يغدوا أبناؤه غرباء عنه.

    كانا على مشارف التقاعد بعد أن أفنَيا عُمرَيهما مُتعبَيْن بين شوارع المدينة وصخبها، مُبعَدَيْن عن أرضهما، عن أرض التين والزيتون، تلك الطبيعة البِكر، النقيّة والأصيلة، والتي، على الرغم من كلِّ جمالها وكلِّ الدفء والأمان في هوائها، إلّا أنّها افتقرت إلى كل مقومات المستقبل الكريم، وعلى الرغم أن لتلك الأرض مدينتها، إلّا أنّها كانت مدينة مُهملة ومُهمّشة أشدّ تهميش. فهجرها أبناؤها نحو مدينةٍ مجاورة بإرادتهم التي ما كانت يوماً إرادتهم.

    كانت تلك المدينة باردة وقاسية، مُغبرّة وجرداء من أشجارٍ لو زُرِعت لانقلب هواؤها الفاسد نسيماً عليلًا، واختفى الضباب والغمام عن أعين أهلها العابسين إنهاكاً. تلك الأعينٌ التي خبّأت خلفها الكثير من الخوف والقلق، ونشدت الأمان المفقود بصوت مكتوم.

    تعلّما عملا وعاشا هناك. ورغم غمرة الركض اليومي بين الشوارع المزدحمة ، ظلّت قلوبهم عالقة بجذوع الزيتون العتيقة ، كانت أرواحهم تُحلّق نحوها كل عام مع أولى نسائم الربيع وكل موسمٍ للحصاد. كانا يحلمان دوماً ببيت صغير بين الحقول، بصباحٍ يبدأ بندى الأشجار، لا بأبواق السيارات المزعجة، وليلٍ يعمُّه سكون الطبيعة، لا صخب المدينة الذي لا يهدأ.

    لم تمنحهم تلك المدينة خياراً آخر سوى النضال، ليس فقط لأجل لقمة العيش بل لأجل حقٍّ بسيطٍ في الحياة، للحفاظ على الهوية والجذور، فنبتت لهم مخالب وهم يحاربون حفاظاً على هويتهم، على ما تبقى من جذورهم. قاتلوا مع رفاقهم الخوف والظلم، في الغرف السرّية، وبأصواتٍ خافتة، تبادلوا كتب لغتهم الأم سراً، تعلّموها سراً واخفوها تحت الوسائد خوفاً من العيون المُتربصة، ناضلوا في العتمة ، وحاربوا بصمت ليحفظوا كرامتهم، وقوت أطفالهم الذي لطالما حُوربوا هم وأجدادهم به، حلموا بالحرّية، والكرامة، وبمستقبلٍ آمنٍ لأبنائهم. كانت أحلاماً صغيرة بصِغَر وجودهم في هذا الكون، لكنها كبيرة وواسعة باتساع آلام أرضهم وعُمقها.

    كانا يراقبان أبناءهما يكبرون في هذه المدينة الصاخبة، يتعلمون لغتها، يسيرون في طرقاتها، يحلمون كما يحلم غيرهم، هذه المراقبة كانت تنم عن خوف عميق، خشية أن يذوب أبنائهم في صخب المدينة، أن ينسوا يوماً لون التراب ورائحة الزيتون، أن تغدوَ الأرض مجرد ذكرى بعيدة وتفقد أرواحهم أيّ حنينٍ لها.

    وبعد سنوات طويلة من الشقاء، بعد أن استطاعا أن ينجزا لأبنائهما مستقبلاً لم يحظَ به آباؤهم، حلموا بالعودة إلى الزيتون، وتحقق الحلم، كانت الحياة قد تبَسّمت في وجوههم أخيراً، وجاءت لتبدأ للتو بعد أكثر من ثلاثين عام من النحت في الصخر.

    كانا وكأنهما على موعد مع الجنة، بين كروم العنب وأشجار التوت، والتين ، والكرز والرمان، كان للواقف على سفح تلك الأرض أن يعانق بقلبه بحراً من أشجار الزيتون الممتدة على طول المدى، كانت السعادة مخبأة بين ثنايا ذلك البيت الريفي، البسيط، والمنسي على الحدود الشمالية الغربية للبلاد، البيت الذي بنَوه حجراً فوق حجر، وزيّنوه بكل ما يهواه قلبهم.

    عاشا ببساطة، زرعا الأشجار وحصدا ثمارها بيديهما، تمشّيا بين الحقول كما كانا يفعلان في صباهما، احتسيا القهوة على شُرفة تطل على الحقول، واستمعا لصوت الريح وهي تعبر بين الأغصان، كان الزمن القصير الذي نعموا فيه بشيء من السعادة هناك، يضاهي أعمارهم السابقة واللاحقة.

    لم تدم تلك الجنة طويلاً، فالشعوب المقهورة كانت دائماً على حق، حين اعتقدت أن لا قمر مكتمل، كان عليهم أن يخافوا من أفراحهم، فغالباً ما تلحقها المصائب، تلك البلاد هي بلاد أمجاد الماضي فقط، لا مكان فيها للمستقبل.ثم، أيُعقل أن يُبصر المُقهَرون أيَّ نورٍ في بلاد الكرامة المهدورة؟

    لم تُهدَر في تلك البلاد الكرامة وحدها، بل هُدِرت الأرواح، وانهمر الدم سيلاً من كل زقاقٍ وطريق. لم يتصور أحد أن لكلمة “الحرّية” التي نطقوها وقعاً مخيفاً لهذه الدرجة، كلمةٌ من أربعة أحرف زلزلت البلاد بأشد الدرجات فتكاً، لم يتصور أحد مقدار الخراب الذي كان قابعاً خلف العيون وفي عُمق النفوس. اقتُلعَت الحناجر، سُلخَ الجّلد عن العظم ، نُهبت البيوت، وبِيعَت مقتنياتها بأبخس الأثمان على الأرصفة والطرقات.

    اختطافٌ، وقتلٌ، وتجويع، كانت لحظة انهيار كشفت عن حجم الشرخ العميق بين طبقات المجتمع، ازداد الأغنياء غِنىً، وجلسوا في أبراجهم العاجية متفرجين ومستفيدين، بينما أفّرغت الطبقات الفقيرة والمسحوقة جُلّ حقدها على الطبقة المتوسطة، فدُهست الأخيرة تحت النعال والأقدام، وظهرت طبقة جديدة: طبقة الأبواق، الانتهازيين، وتُجّار الحرب.

    لم يجدا مَنفذاً نحو الخلاص إلّا في الرحيل. تحوّلت مخالبهم التي نحتوا بها حياة أبنائهم لأجنحةٍ هَرمة، حملوا صورهم ورحلوا، حملوا الذاكرة فوق أكتافهم ورحلوا، تركوا أحلامهم خلف ظهورهم، لم يحملوا معهم سوى الغبار العالق بملابسهم، ووجوههم التي حفرت فيها الأيام خطوطاً من التعب والخذلان.

    ذَبُل حقل الزيتون، جَفّت دالية العنب، وتشققت الأرض عطشاً، حتى بيتهم ذاك في الريف البعيد لم يصمد أمام زلزال الحرب، بل كان خرابه مدوّياً.

    كانت لحظة لم يتوقعاها، يوم تسلل الغرباء إلى الذاكرة كما تسللوا إلى الأرض، أذكر يوم تلقَّيا صورة من هناك، أذكر كيف تكسّرت أسنانهما قهراً.

    هما اللذان أصبحا منفيين وغريبين في كل الأماكن. هما اللذان فُجعا بأحلامهما، لم يقطِفا ثمار التّعب الطويل بل وجدا نفسيهما بين ليلة وضحاها على رُقعةٍ أُخرى بعيدة، ليبدأوا برفقة أبنائهما رحلة البدء من الصفر من جديد. وكأن الحياة تكرار أبدي ، وكأن الشقاء هو القاعدة والحلم استثناء.

    وفي رواية أخرى.

    أمضيا هما وكثيرون آخرون من أمثالهم جُلَّ حياتهم لأجل القضايا التي ناضلوا وقاتلوا من أجلها، لتُطمس أصواتهم فيما بعد، ولتتحول كل تلك المبادئ التي نادوا بها إلى سلعةٍ رخيصة تُباع وتُشترى في أسواق الساسة المنافقين.

  • جاهزية العنف وفوائضه في سوريا

    جاهزية العنف وفوائضه في سوريا

    لم يكن يومي الأول في المدرسة سهلاً. كما لم تكن يومياتي في مدينتي القامشلي/قامشلو سوى إعادة تكوين مستمر لما هو عليه الحال، بصعوباته وتعقيداته وعنفه. حالٌ احتاج إلى تمارين مستمرة مع الذاكرة، ومقاومة ما تسجله وصناعة مخيلة موازية عبر وسائل وآليات ممكنة لتخفيف جداريات الخوف والعنف وحواجز الألم التي تضغط جسدك الهش الذي ليس له وزن وسط تلك الأماكن التي تباعد بينك وبين شعورك بها والانتماء إليها. لم يكن الاغتراب يتشكل مرة واحدة في مدينة تشكلت على أساس بناء أكثر من حصار وأعمق من مجرد ابتعاث أنماط الخوف والتهديد الدائمين لأحد مكوناتها الرئيسية والتاريخية، وهم الكُرد.

    عود على بدء. نعم، كان يومي الأول بالمدرسة معنوناً بالهرب. فقد كان شعور وكأنني غريبة حتى عن ذاتي، بينما العالم يدور من حولي دون أن أكون جزءًا منه أو هذا الجزء المرغوب في تواجده وبقائه على حاله كما هو. خرجت من البوابة الحديدية كأنما أفلت جسدي من شيئ مبهم وغامض، ورغبة في الاستقرار تحت وطأة ليس جحيماً إنما فقدان القدرة على الاستيعاب أو الاندماج. سألني حارس المدرسة أو آذن المدرسة كما نسميه: “لوين رايحة” فأجبت: “عالبيت عالبيت”. نعم كنت أريد البيت، الاحتماء من هوة وفاصل ليس فيه سوى طنين وأصداء مخيفة من حولك ترغمك دفعة واحدة أن تكون عربياً بالثقافة والهوية والقومية وحتى اللغة، أن تكون شخصاً آخر غير الذي أنت عليه، بقسوة وقسراً. ذلك ما عاناه كل كُردي في سوريا تحديداً، ومن دون التفتيش عن عبارات ذات بلاغة سياسية أو أدبية. فالواقع على مستوى وقائعه المادية الملموسة، وكذا المعنوية والرمزية، سواء ما يتصل بالبنية الاجتماعية والثقافية أو المؤسسات ونمطها الهيكلي والبنيوي، يؤشر إلى حمولات عنف وإقصاء تلقائيين ضد كل من يخالف الصفة القومية المؤدلجة لـ”البعث” في سوريا. بل إن أي انحراف عن هذا النمط وهندسته الاجتماعية المصنوعة أو رغبة في مقاومته، تعني حتماً إضعافك حد العجز، والتهميش حد التعمية عمداً عن وجودك، وتنتهي إلى الإبادة الناعمة والصاخبة في آن.

    كنت أشبه الطفل في فيلم “جيران”، هذا الطفل “شيرو” الذي يتعرض لقمع وشتات، منذ دخوله المدرسة، فيتعرض للإهانات والضرب لعدم قدرته على الفهم باللغة العربية أو استعمالها. ورغم أن الفيلم يسجل حقبة تعود إلى ثمانينات القرن الماضي، إلا أن ذلك يؤشر إلى استمرار التغريبة الكُردية، التي لم تنته حتى في العقود التالية. فليس مسموحاً لك في سوريا البعث أن تكون كُردياً عادياً، تدندن أغنية للفنان الكُردي محمد شيخو، أو تتحدث مع ذاتك أو الآخرين إلا بطريقة واحدة ستتعملها بالعصا الغليظة والقسوة والسباب من ذاك المدرس المتجهم الذي جاء من دمشق أو المحافظات المركزية، لينقل مناطق الهامش من الجهل والظلامية إلى “البعث”.

    ليس لك مجالٌ آخر للتفكير أو الخيال أو مساحة للتجريب واكتشاف العالم بالخبرة وبناء التجربة، إنما الاستجابة الفورية لتعاليم “الأب” و”القائد”، والانشغال في ما يراه ضروري أو حتمي أو مرحلي واستراتيجي، مثل عروبة سوريا وتحرير فلسطين والعدو في إسرائيل.

    جاهزية العنف في سوريا ووفرته وفوائضه، كانت واضحة في تفاصيل الحياة اليومية للكُرد، باعتبارهم عنواناً بارزاً للقمع وآلياته في ظل سلطة البعث على مدار عقود ليست بالقليلة. فاللغة المتداولة بحذر ضمن نطاق العائلة بحيث لا تخترق الجدران وينتقل صداها أبعد من ذلك، حتى تظل تلك الجدران حاجز الأمان عن احتمالات الأذى اللا محدود وغير المتخيل، مثلها مثل الشارع والمدارس، وهما ضمن فضاءات المجال العام الذي لم يكن للحظة عاماً، ويتخوف الكُرد من تداول أزياءهم أو الاحتفال بأعيادهم، إنما ضيقاً ومراقباً ويخلق حدوداً لا يمكن تخطيها سوى ببطاقة شرعية هي العربي البعثي، وهي رقابة خفية ليست علانية. منتشرة مثل عدوى تسيطر على جهازك المناعي.

    إذاً، التهميش الثقافي والعنف الرمزي، لهما الأثر المباشر في توليد الاغتراب، حيث إن بناء مصائد علانية أو خفية للكُرد، يتجاوز فكرة العنف المباشر أو بناء مجتمعات الهامش، إنما تجعل وجودك كفرد متوتراً، قلقاً، أو تضطر إلى الذوبان في ما هو عام ومشروع بالمعنيين السياسي والأيدولوجي. ففي المدرسة كانت لافتاتها وجدرانها كما مناهجها والأفراد العاملين بها، هم وسائط إكراه مباشرة عبر العملية التعليمية المؤسساتية لخلق الشعور بالانفصال عن خصوصية البيئة الاجتماعية وعزلك هوياتياً. فالانسحاب المباغت والتلقائي في اليوم الأول لي بالمدرسة، هو عملية هروب مؤقتة. حيث إنه، في المقابل، التطبيع هو المآل الطبيعي لحالات الحصار وتعميم الاستعمار الثقافي والسياسي، وعسكرة الأوضاع المدنية. ذلك لا ينفي ثنائية التطبيع والمقاومة، لكنها تظل مقاومة محدودة وتنخفض مستوياتها، خاصة مع الشعور بالفناء والتهديد الوجودي، والرغبة في الحفاظ على الجماعة وتكوينها الاجتماعي والثقافي على أساس ما هو محتمل وفي درجاته الدنيا أو حتى المدعومة وخلق مساحات معتمة، للإعلان عن الهوية الكُردية في الاحتفال بعيد النوروز بمكان بعيد، واختلاس لحظات انبساط والتحايل على الرموز واللغة والثقافة البعثية ومربعاتها الأمنية، لاختبار الحياة حتى لو بمشاعر وهن وعجز. فقط اختبار الحقيقة من دون إحساس الوقوف على الحافة، والتماس الوجود بذاكرة ليست انتقائية، وانفعالات طبيعية.

    عام 2004، اندلعت انتفاضة القامشلي/قامشلو بعد أحداث العنف في مباراة كرة قدم، مما أدى إلى قمع أمني واسع، وسقوط ضحايا، واعتقالات كبيرة بحق النشطاء الأكراد. وقد كان ذلك الوضع نقطة عنف قصوى في سياق تاريخ مليئ بالقمع والتمييز، سبقه الحرمان من الجنسية ومشروع “الحزام العربي” وتعريب المناطق الكُردية، وغلق المنظمات الاجتماعية والسياسية والثقافية الكُردية، وتوطين عشائر عربية في شريط يمتد على طول الحدود مع تركيا. كما تم تهجير آلاف العائلات الكُردية من قراها، وصودرت أراضيهم لصالح المستوطنين العرب، مما غير التركيبة الديموغرافية للمنطقة. وكان مجرد التحدث بالكُردية أو رفع الأعلام الكُردية أو حتى الألوان التي تدل على أعلامهم يُعد جريمة يعاقب عليها القانون.

    منذ وصول حزب البعث إلى الحكم، انتهج سياسة التمييز والقمع ضد الأكراد، سواء بحرمانهم من الحقوق المدنية، أو تهجيرهم، وقمع لغتهم وثقافتهم، أو من خلال الاعتقالات والاغتيالات. وبعد 2011، تغيرت الأوضاع جزئياً، لكن النظام السوري البائد ظل متورطاً في استهداف النشطاء والقيادات الكُردية، واستمر في قمع أي تطلعات كُردية للاستقلال أو الإدارة الذاتية.

    غير أن المسألة الكُردية على مستوى الفرد، ليست في الحقوق الثقافية أو التاريخية أو قطعة جغرافية في خريطة متخمة بالنزاعات المتفاوتة، إنما هي كل ذلك، مع فض النزاع حول ما راكمته الأنظمة القمعية بشأن الرموز الثقافية والمعنوية بالفضاء العام التي ما تزال لها قدرة على تحقيق الألم، وتعيينه في مجالات رقابتها المتعددة لكل من يخالف المعايير العامة والمتسيدة، وتمارس قدرتها على تدمير أي تراث مغاير والانقطاع التاريخي عنه.

    وما زال شعوري العام إزاء كل هذا، هي مقاومة آليات الإبادة الناعمة، الثقافية الرمزية والهوياتية، والتعافي من آثار تبديد الهوية، والذي يبرز، مثلاً، في القمع اللغوي الذي ترك آثاره في قدرتي على التعبير بالكلية ومرونة باللغة الأم الكُردية عن أفكاري ومشاعري، لا سيما مع تراكم الخوف وتوليده الدائم كلما حاولت تمرير اللغة على لساني وترديدها بتلقائية ومن دون هواجس مختلفة مريرة. وليس خافياً، أن اللغة الكُردية ذاتها تعاني بنيوياً من ضعف وعدم تطور مع عقود التهميش وعدم قدرة أبنائها على استعمالها، في حين لم تكن هي الحامل الهوياتي لهم للتعبير عن ذواتهم، سواء كان نثراً أو شعراً أو حتى في يومياتهم العادية. نسبة ليست بالقليلة من الكُرد لا تجيد الكتابة بالكُردية، مثلاً، إنما استعمالها شفاهة.

    هذه المعاناة بجملتها، التي تغيبت فيها عملية تداول اللغة في المؤسسات التعليمية والثقافية، وبرامج الإعلام، وكذا بالمجال العام، نجم عنها التذويب القسري، والاحتواء الثقافي، بحيث تم تدمير ثقافة شعب من دون الحاجة إلى العنف المباشر. وقد مورست هذه الإبادة غير الصاخبة عبر حرمان الكُرد من لغتهم في المدارس، وتضييق فرص تسمية أبنائهم بأسماء كُردية، وتعميم العربية، بما خلق شعوراً بـ”منفى داخلي”.

    ذلك ما عبر عنه عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي بيير بورديو في كتابه: “الهيمنة الذكورية”، بأن القوة الأكثر فاعلية هي تلك التي تمارس من دون عنف ظاهر، حيث يتبنى المقهور سردية الآخر الذي يفرض مؤسسة القهر. وتتعمق مشاعر الاغتراب أو بالأحرى تفاقمها تبني صورة سلبية عن الذات. بالتالي، فإن إدارة المجال العام وهندسة المجتمع من خلال مؤسسات لها الصفة المسيسة والأيدولوجية في سوريا البعث، لم يكن سوى استراتيجية لإحداث الإقصاء وتوليد قوى خفية تمارس عبر الرموز والتصورات الثقافية، ما يجعل الأفراد تحت وطأة وهيمنة نمط معين من التفكير وداخل الجهاز المفاهيمي، بقيمه ورموزه، وذلك من دون وعي أو قدرة على تجاوز أو التحرر من الإكراهات.

    ويمكن القول إن أمننة أو عسكرة المسألة الكُردية وكذا فرض “حزام عربي” حول مناطقهم والتغيير الديمغرافي، ليس حدثاً مؤسساً، ولا يمكن أن يكون بفعالية ما أحدثته آليات أخرى مماثلة في القمع، لكنها تحقق نتائج أكثر فداحة، تحديداً ما يتصل باللغة، المناهج الدراسية، الإعلام، والأيديولوجيا السائدة، حيث ترافقك مشاعر أن الثقافة المهمشة، ثقافتك، هويتك، لغتك، بأنها أقل شأناً أو حتى غير موجودة، ففي حال التفكير بها بصمت تخرج من حيز الوجود إلى الإحساس بالتخفي أو الهرب وكأنما فقدت شرط الوجود أو على وشك!.

    فالكُردي داخل هذه التأثيرات والإكراهات المختلفة والحصار الممتد يبدو منفياً عن ذاته، بينما يرى العالم من جهة الطرف الذي يضطهده ويسعى إلى إرغامه على التطبيع والقبول بالهيمنة. فمع رفض التعلم باللغة الأم وحتى تداولها اجتماعياً وثقافياً، تم بتر الصلة بالتراث، بما ولد لدى الكُرد إحساساً وكأنهم بلا جذور، وقد عمّق ذلك الفجوة بين الهوية الفردية والجمعية. غير أن المقاومة اللاحقة لم تؤدي إلى تصفية هذا الشعور، شعوره بالرفض والتهديد، أو ترممه بشكل كامل، وظل الإحساس نتيجة الرفض والنبذ والإقصاء يرافق محاولات الكُردي للبحث عن بدائل العزلة والاحتماء بالهوية، هويته، حتى كانت مشاعره غائمة. فمتلازمة الإحساس بأنك خارج المكان، غريب أو مغترب، سبقت معرفتي بالإحصاء الاستثنائي في الحسكة الذي أفقد فيه البعث مئات الألوف من الكُرد صفة المواطنة، ولهذا الهروب من المدرسة والتخفي من المجال العام، هما مشاعر تلقائية نتيجة هندسة اجتماعية قائمة على سردية ورموز محددة تؤدي نتائجها بفعالية ومباشرة في تحقيق الطاعة.

    وفي كتابه الاستشراق، يوضح إدوارد سعيد أن القوى المهيمنة، حتماً، ما تفرض تصوراتها على القوى التي تمارس ضدها العزلة والتهميش، مما يجعلهم يشعرون أنهم خارج نطاق التأثير السياسي أو الاجتماعي.

    لكن، تظل ثنائية المقاومة وإعادة تشكيل أو بناء أو استرداد الهوية، قائمة رغم كل تلك المعاناة وسيرة الآلام، حيث إن التهميش الهوياتي والثقافي وفي الحالة الكُردية، لم يكن دوماً في موقع الضحية بل سعى إلى أن يبدل مواقعة ويكون أداة مقاومة، وهو ما نلمسه راهناً بمحاولات إحياء اللغة الكُردية، والاحتفاء بها، وإعادة كتابة السردية التاريخية خارج إرادات السيادة العليا سياسياً ومؤسساتها.

    ولئن يقول المفكر اللبناني مهدي عامل في كتابه: “الدولة الطائفية”، إن المهمشين ليسوا هم من يعيشون خارج التاريخ، بل الذين يُجبرون على العيش في هوامشه، حيث تُصادر أصواتهم وأحلامهم، فإن الأصوات والأحلام لها قابلية أخرى غير القبول بالطمس أو الإبادة على وقع الانسداد الذي يخلق التاريخ أو السرديات الكبرى والرسمية، وما تزال هناك رغبة في تشكيل وعي آخر غير وعي المغلوب والمتفوق أو ثنائية الغالب والمغلوب.

  • سؤال الانتماء وهاجس النفي

    سؤال الانتماء وهاجس النفي

    الواقع السوري من منظور فلسطيني: سردية شخصية

    يوميات من الواقع المعاش، لعنة الوجود بين ضياع الهوية واللجوء

    إن تدوين الواقع السوري من منظور فلسطيني سوري يمثل تحدياً جماً للكاتب. فترجمة المشاعر المكبوتة، التي لا يُسمح بالإفصاح عنها، واسترجاع ذكريات طواها النسيان في غياب مستمع حقيقي، أمر بالغ الصعوبة. لكن العبء الأكبر يقع على عاتق القارئ، الذي يواجه قصصاً ومعلومات تُروى للمرة الأولى، وقد تكون هذه هي المرة الأخيرة.

    كما أنني أواجه صعوبة في تحديد نقطة بداية مناسبة لهذا الحديث، لذلك سأطرح سؤالاً لطالما شغل تفكيري: هل أجد في سوريا وطناً أنتمي إليه؟ والأهم من الإجابة، هو استكشاف أسباب هذا التساؤل.

    قد تكون الإجابة بسيطة ومختصرة في بعض الأحيان، بينما تتشعب وتتعقد في أحيان أخرى. في الواقع، لا أجد في سوريا انتماءً حقيقياً، وذلك لغياب أي صوت أو تمثيل لي هنا. فأنا محروم من حق الانتخاب، أي من حق الاختيار، على الرغم من ولادتي ونشأتي هنا، وتجذري في هذا المكان. لطالما شعرت بأنني مواطن من درجة دنيا، لأسباب أدركها جيداً، ولكنني أرفض الاعتراف بها.

    ومن الجدير بالذكر أننا، كفلسطينيين سوريين، لا نتمتع بحقوق ذوي الشهداء، حيث لا يحظى أفراد عائلات الشهداء الفلسطينيين بنفس الدعم الذي يحظى به غيرهم. كما أن الخدمة العسكرية مفروضة علينا في سوريا، على عكس الوضع في لبنان والأردن. بالإضافة إلى ذلك، يشير تقرير غير رسمي إلى أن عدد المعتقلين الفلسطينيين في السجون السورية يتجاوز الخمسين ألفاً.

    فنحن شركاء في كل جوانب الحياة، في الأفراح والأحزان، في الحياة والموت، في الأسر والحرية. ومع ذلك، أحمل بطاقة هوية تحمل عبارة “إقامة مؤقتة”، مما يجعلني أعيش في وطني كضيف مؤقت، مهدداً بالترحيل في أي لحظة.

    ومن المواقف التي لا تُنسى، سؤال أحد الزملاء: “متى سيتم ترحيلكم؟” كان وقع السؤال صادماً، ولكنني تمالكت نفسي وأجبته: “من غير اللائق طرح مثل هذا السؤال، خاصة في ظل الظروف التي نعيشها جميعاً. وأود أن أضيف أن بعض الجهات تستفيد مادياً من وجودنا هنا.”

    فأنا أمتلك لكنةً متداخلة، مزيج فريد من اللهجات الشامية والحمصية والفلسطينية واللبنانية، وذلك بحكم جذور والدتي الفلسطينية اللبنانية. هذا التنوع اللغوي، الذي لطالما افتخرت به، يمثل بالنسبة لي تجسيداً ثرياً لتعدد الثقافات التي أنتمي إليها.

    أجدني أطرح السؤال ذاته مجدداً: هل أشعر بالانتماء إلى سوريا؟ وهذه المرة، أقدم إجابة مغايرة لما سبق. نعم، أشعر بانتماء عميق، يصل إلى حد الشعور بالضياع والتوهان عند مغادرة سوريا، وتحديداً حمص. حمص، المدينة المظلومة والمنسية، التي قلما تغنى أحد بجمالها وبساطتها، وطيبة أهلها.

    حمص، المدينة التي لا يشعر فيها المرء بالغربة أبداً. تجول في شوارعها، في الحضارة، الدبلان، الغوطة، أو حتى بين الأنقاض، ستشعر أنك جزء من أهلها، مهما كان أصلك. أهلها يتميزون بالطيبة والكرم والسخاء، فإذا زرت حمص ولم تجد مأوى، فكل بيوتها مفتوحة لك.

    سوريا، وتحديداً حمص، أصبحت بالنسبة لي أغلى من الأهل، فهي تحتضن ذكريات وقصصاً لا يمكن أن تمحى. ذكريات صباحات الجامعة، وزحمة المواصلات، والخوف من التأخر عن المحاضرات. ذكريات الأصدقاء، الصحبة الصادقة، والسند الحقيقي في الأزمات. رغم كل الصعاب التي مرت بها البلاد، لا يزال هناك أناس طيبون وحنونون على بعضهم البعض؛ الشعب السوري الذي لطالما كان حنون ومعطاء، ولكن قست عليه الظروف.

    رغم ما قد يتبادر إلى الذهن من تساؤلات حول الانتماء، فإن قناعتي الراسخة وإرادتي الصلبة تؤكدان أن سوريا هي وطني الأول، ومصدر أحلامي، وهذا لن يتغير.

    لا أسعى إلى رسم صورة قاتمة، بل أردت فقط تسليط الضوء على فداحة الشعور بالضياع، الذي أدرك تماماً أنه يثقل كاهل كل سوري.

    إن العلاقة بين الإنسان ووطنه علاقة عصية على التفسير في معظم الأحيان. قد يتبدى للبعض أن الإنسان ينقم على وطنه بسبب وطأة الظروف، ولكن الحقيقة هي أن الوطن نفسه يرزح تحت وطأة هذه الظروف، ولا يملك حيالها حيلة.

    لابد من الاعتراف بوجود فجوة بين المواطن الفلسطيني والمواطن السوري. ولكن ما هي جذور هذه الفجوة؟ وما هي الدوافع التي تغذيها؟ هل يعود السبب إلى غياب قنوات التواصل الفعالة بين الطرفين؟

    لماذا يتم ترويج صورة نمطية سلبية عن الفلسطينيين، تصورهم على أنهم غير متحضرين وغير متعلمين؟ من المسؤول عن ترسيخ هذه الصورة المشوهة؟

    لماذا تتردد السلطات في السماح بدخول المخيمات الفلسطينية في مختلف المحافظات السورية؟ مما يخشون؟ هل يرون تهديداً؟ لا أظن ذلك.

    يستغرب الكثيرون عندما يعرفون أنني ولدت في سوريا، وأن والدي أيضاً ولد هنا. ما هو سبب هذا الجهل؟ ألم يسمعوا عن نكبة عام 1948 والتهجير القسري لأكثر من سبعمائة وخمسين ألف فلسطيني وتشتتهم في أصقاع الأرض؟

    كما أن هناك رفض ضمني من البعض لوجود موظف فلسطيني في المؤسسات الحكومية أو الخاصة، بدعوى أنه يشغل مكاناً مخصصاً لمواطن سوري. ولكن إلى متى سنظل أسيرين لهذا التفكير العتيق؟ كما يقول الأجداد، “الأرزاق مقسومة والأقدار مكتوبة”، فليس لأحد أن ينتزع رزق غيره.

    آن الأوان للاعتراف بالمواطن الفلسطيني السوري كعنصر أساسي في النسيج الاجتماعي السوري، حيث يتجاوز تعداده نصف مليون نسمة، وهم جزء لا يتجزأ من هذا الوطن.

    استكمالاً لما تطرقنا إليه سابقاً حول الفجوة القائمة بين المواطنين السوريين والفلسطينيين السوريين، نجد أن المشهد يتكرر اليوم بصورة مغايرة وأكثر تعقيداً. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، الذي شهد عودة الأهالي من الشمال وتركيا ولبنان إلى مختلف المحافظات السورية، نلمس صعوبة في التآلف والتأقلم فيما بيننا. ويعود ذلك إلى عوامل متعددة، منها الاختلافات المكانية والمناخية، وتفاوت الأفكار والمعتقدات.

    المفارقة تكمن في أن المعادلة اليوم هي سوري في مواجهة سوري، يتشاركان اللهجة والجذور، ومع ذلك يجدان صعوبة في التواصل والانسجام. فما بالنا بالفجوة بين الفلسطيني والسوري؟ إن هذا الشرخ أمر طبيعي، وسيتلاشى بمرور الوقت. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكننا تسريع هذه العملية؟ أرى أن الحل يكمن في التواصل والاحتكاك المباشر، وفي الإصغاء المتبادل قبل الكلام، وفي التوحد كجسد واحد بأرواح متنوعة، وفي هدم الحواجز التي أقامها النظام السابق بيننا.

    المواطن الفلسطيني السوري ليس غريباً عن المكون السوري، فهو تماماً كما يحمل كل سوري انتماءً فريداً إلى مدينته أو منطقته، سواء كان سورياً حمصياً، شامياً، أو حلبياً، أنا أحمل انتماءً مزدوجاً، فأنا سوري فلسطيني.

    في نهاية هذه الرحلة عبر الواقع السوري من منظور فلسطيني، أجد نفسي أمام لوحة معقدة من المشاعر والتجارب. إنها قصة انتماء وتمزق، قصة هوية ضائعة وأحلام مبعثرة، قصة شعبين يتقاسمان الألم والأمل.

    لقد حاولت قدر الإمكان أن أنقل صورة صادقة عن الواقع المعاش، بكل ما فيه من صعوبات وتحديات. لم أهدف إلى تجميل الواقع أو تشويهه، بل أردت فقط أن أشارك تجربتي الشخصية، وأن أساهم في إيصال صوت الفلسطينيين السوريين، الذين يمثلون جزءاً لا يتجزأ من هذا الوطن.

    أؤمن بأن الحوار والتواصل هما السبيل الوحيد لتجاوز الفجوات وتوحيد الصفوف، وأؤمن بأن الاعتراف بالتنوع الثقافي والاجتماعي هو أساس بناء مجتمع متماسك وقوي.

    وأتمنى أن نتمكن جميعاً، سوريين وفلسطينيين، من بناء مستقبل مشرق لهذا الوطن، مستقبل يسوده السلام والعدل والحرية.

  • بين أدائية الجندر وصناعة ‘الآخر’

    بين أدائية الجندر وصناعة ‘الآخر’

    الأداء الجندري، صناعة الآخر، والانتهاك بحق المجموعات الجندرية المهمشة في المجتمع السوري

    توطئة. تاريخ المجتمعات لا يُكتب فقط عبر الأحداث السياسية الكبرى، بل من خلال حياة الأفراد وهوياتهم المتشابكة، عبر ممارساتهم اليومية ومعاناتهم ضد الأنظمة التي تسعى لإخضاعهم حتى وأن كانت هذه السلطة اجتماعية قبل أن تأخذ شكلها المؤسساتي وهنا أقصد الدولة. في سورية، كما في العديد من المجتمعات الأخرى، تُنتج السلطة خطاباً يُعيد إنتاج العنف ضد الفئات المهمشة، خصوصاً المجموعات الجندرية، حيث يتم استهدافهم عبر القوانين، والوصم الاجتماعي، والعنف الممنهج، كما وضح بيان ترانسات حول قمع العابرين والعابرات في سورية.

    هل الجندر هوية أم فعل قسري؟

    تُفكك جوديث بتلر في مفهوم الأداء الجندري (Gender Performativity) فكرة أن الجندر هو جوهر ثابت، وتدعي أنه مجرد فعل متكرر يُعاد إنتاجه داخل المنظومة الاجتماعية. بمعنى أن الأفراد لا “يكونون” رجالاً أو نساءً، بل “يؤدون” هذه الأدوار وفقاً لأنظمة الخطاب والمعايير الاجتماعية السائدة. هذا الأداء ليس حراً أو اختيارياً بالكامل، بل هو مشروط بالعقاب أو المكافأة الاجتماعية. فمن يؤدي دوره “بنجاح”، أي بما يتماشى مع الثنائية الجندرية المقبولة، ينال القبول، بينما من يخرج عن هذه القوالب يواجه الإقصاء والتهميش، أو حتى القمع والاضطهاد.

    في هذا السياق، يتم استبعاد أولئك الذين لا يتماشون مع هذه الأدوار، سواء بسبب هويتهم الجندرية أو ميولهم الجنسية، ويُنظر إليهم على أنهم “الآخر”، أي تهديد للنظام الثنائي للجندر (امرأة/رجل) والجنس (أنثى/ذكر). هذه الازدواجية ليست مجرد تنظيم اجتماعي، بل هي جزء من منظومة أيديولوجية تضمن استمرارية السلطة والسيطرة، حيث يتم تهميش أي هوية تقع خارج الثنائية الجندرية (امرأة/رجل).

    من هنا، تأتي الانتهاكات التي تمارس بحق الأفراد المختلفين، ليس فقط على المستوى القانوني أو المؤسسي، بل أيضاً في الحياة اليومية من خلال الإقصاء، والعنف الرمزي والمادي، والوصم الاجتماعي. هذه الانتهاكات ليست مجرد “أحداث فردية”، بل هي جزء من نظام أوسع يُعيد إنتاج العنف للحفاظ على الهياكل الجندرية القائمة.

    هالهياكل يلي بتتشكل عن طريق ما يعرف بالأدائية الجندرية كما وصفتها بتلر، لهيك إذا بدنا نبسط مفهوم الأدائية الجندرية، منكون بحاجة لاستعارة خشبة المسرح وتشبيه دور الممثل على خشبة هالمسرح بدور الفرد في المجتمع…وهيك فينا نشوف أنو المسرح هو المجتمع ككل وكل أفراد المجتمع هنن عبارة عن ممثلين لأدوارهم الجندرية يلي مشكلة مسبقا او مكتوب نصها من قبل أفراد آخرين بالمجتمع أو نتيجة ممارستها في جيل سابق أو نتيجة إرث ثقافي اجتماعي معين.

    في سورية، تُعيد السلطة إنتاج هذه الثنائية الجندرية من خلال مؤسسات الدولة، التعليم، والإعلام، التي تفرض تصورات معينة حول الذكورة والأنوثة – المعايير الخاصة في الرجال والمعايير الخاصة في النساء. لكن الأخطر، هو كيف يتحول هذا الإطار القسري إلى أداة لقمع المجموعات التي لا تمتثل لهذه القواعد، كما هو واضح في استهداف العابرين والعابرات جندرياً. 

    صناعة الآخر!

    تتطلب كل هوية مهيمنة “آخراً” تعرّف نفسها من خلاله. في المجتمعات التي تُقدّس الثنائية الجندرية والجنسانية المغايرة كمعيار وحيد – يتم تأكيده دينياً وثقافياً على الدوام، يُنظر إلى كل من يخرج عن هذه الحدود على أنه “غير طبيعي”، “منحرف/شاذ”، أو حتى “خطر”. وكما أشار إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، فإن الغرب صنع صورة “الآخر الشرقي” كأداة للسيطرة الاستعمارية، ويمكننا القول إن المجتمعات الأبوية تُنتج “الآخر الجندري” للحفاظ على نظامها القائم، مستخدمة نفس الأدوات القمعية التي شرعنتها أنظمة الاستعمار والنيوليبرالية الحديثة.

    في سياق الحكومة الانتقالية السورية (دون استثناء الحكومة التي سبقتها)، لا يتم فقط استبعاد العابرين والعابرات جندرياً من الاعتراف القانوني، بل يتم أيضاً تصدير خطاب يعتبرهم تهديداً للمجتمع، مبرراً بذلك العنف ضدهم. تتجلى هذه السردية في الفيديوهات التي وثّقت العنف الممارس ضد العابرات، حيث تعرّضن للإذلال والضرب والاعتقال في عدة محافظات سورية، في مشهد يكشف مدى تغلغل الذكورية الهشة في بنية السلطة والمجتمع. هذه الممارسات القمعية لم تُواجه بالرفض المجتمعي الواسع، بل على العكس، جرى التطبيع معها باعتبارها “مقبولة ومرحب بها” في سياق النظام الجندري السائد. من قام بتصوير ونشر هذه المشاهد كان بالتأكيد يدرك مسبقاً أنه سيحظى بالتأييد والتبرير الاجتماعي، وهو ما تجلّى بوضوح في التعليقات المشينة التي شجّعت هذه الأفعال، أو في الصمت الجماعي الذي أعقب انتشار مشاهد العنف. هذا الصمت لم يصدر فقط عن الأفراد الذين يمارسون العنف أو يبررونه، بل امتد ليشمل شرائح تدّعي رفض العنف بكل أشكاله، لكنها تتغاضى عنه حين يكون موجّهاً ضد “الآخر”، أي المجموعات الجندرية المهمشة التي يُنظر إليها كخارج عن النظام الاجتماعي المقبول، مما يعكس عمق الخوف والتردد في التضامن مع هذه المجموعات حتى من موقع رفض العنف ذاته.

    العنف الممنهج كأداة للهيمنة: من التشريع إلى التنفيذ

    الانتهاكات التي يتعرض لها العابرون والعابرات جندرياً في سورية ليست مجرد أفعال فردية، بل هي جزء من منظومة اجتماعية تُعيد إنتاج العنف للحفاظ على الحدود الجندرية. يتجلى ذلك من خلال القوانين التمييزية – حيث يتم استخدام التشريعات لتجريم الهويات غير النمطية، ومنع الاعتراف القانوني بالهويات العابرة جندرياً. العنف الجسدي والرمزي – الذي يظهر في جرائم الكراهية، الاعتداءات، والتنمر، لكنه يشمل أيضاً العنف غير المرئي كالإقصاء الاجتماعي والتشهير الإعلامي. التحكم في الأجساد – من خلال فرض ممارسات مثل العلاج القسري، أو خطاب الدولة والإعلام الذي يحرض ضد المجموعات الجندرية المهمشة، مما يشرعن العنف الاجتماعي ضدهم.

    ما نشهده اليوم في سورية ليس مجرد استهداف للمجموعات الجندرية، بل هو امتداد لاستراتيجية أوسع تُستخدم لقمع أي مجموعة تخرج عن المعايير التي تفرضها السلطة والتي ينتجها المجتمع في مرحلة سابقة. وكما أشار بيان ترانسات، فإن استمرار هذه الانتهاكات لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة الدولية للحكومة الانتقالية، ويكشف تواطؤها في تعزيز نظام استبدادي يُعيد إنتاج العنف بدلاً من بناء دولة قائمة على الحقوق والعدالة.

    مقاومة الأداء القسري وإعادة سرد التاريخ

    إذا كان الجندر فعلاً يُعاد إنتاجه عبر الأداء، فإن مقاومته تبدأ من إعادة تعريفه ورفض الامتثال للقواعد القسرية التي تُفرض على الأفراد. هذا يتطلب تفكيك الثنائية الجندرية، ليس فقط على مستوى الخطاب، ولكن من خلال تحدي القوانين والممارسات القمعية، وخلق فضاءات بديلة تعترف بالهويات الجندرية المتعددة. 

    في النهاية، الاعتراف بالهويات غير النمطية ليس مجرد “تسامح”، بل هو تفكيك لنظام قمعي يعيد إنتاج العنف تحت ستار “الطبيعة/المتعارف عليه/السائد” و”الأخلاق/الدين/الثقافة”. فهل يمكن أن نتصور مجتمعاً لا يُنتج الآخر كي يُبرر العنف ضده؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نطرحه، ليس فقط على السلطة، بل على أنفسنا أيضاً، في معركة استعادة السرديات الغائبة وخلق فضاءات شمولية تضمن تمثيل الأصوات المهمشة.


    المراجع والمقالات والمفاهيم التي تم الانطلاق منها في هذه التدوينة

    – نظرية الأدائية الجندرية لـ جوديث بتلر، ومفهوم الجندر كأداء اجتماعي. تحديدا في كتاب بتلر عن قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية (Gender Trouble).

    – كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد.

    – بيان ترانسات؛ الحكومة الانتقالية السورية وقمع العابرات والعابرين. https://drive.google.com/file/d/1qJmQhFneu5yWwGfW6wYM4JtozRkl-42m/view

  • السفر في بطن الوحش

    السفر في بطن الوحش

    نصيبك بحياتك من الناس يلي بتحبن أنّك تشوفن برا سوريا..

    أنا صبية سورية عايشة ب سوريا، بالرغم من كل الظروف السيئة يلي كنا عم نمر فيا ب وقت الحرب إلا أنو وجود عيلة بتحبك معك بخليك تنسى أو تتناسى يلي عم تعيشو، عايشة ب عائلة بسيطة مؤلفة من أب موظّف وأم ربة منزل وأخين.

    بيوم مشؤوم وبظل القصف والغارات يلي كانت تصير ب الجامعات السورية وبعد غارة انضربت على جامعة حلب /كلية العمارة يقرر العصفور الأول من أخواتي أنو يسافر حتى يأمن مستقبلو.

    مشاعر طفلة بعمر 9 سنين كانت غير مفهومة

    •ليش سافر؟

    •لو ماكانت الغارة يلي انضربت رح تقتلو كان رح يضل؟

    •شو يعني يأمن مستقبلو؟

    تساؤلات كتيرة كنت ولا زلت ماعم لاقيلا جواب.

    شهر، شهرين، 3 شهور عندي أمل انو رح يرجع ويكمل دراستو ويخلص الكابوس وتخلص الحرب.

    بيوم من أيام الصيف بتوصل رسالة من أخي

    “أنا نقبلت بجامعة بأوروبا ورح اطلع كمّل دراسة هنيك”

    مشاعر مختلطة غير مفهومة

    نقاشات كتيرة كانت عم تصير والسؤال يلي عم يدور

    “كيف فينا نودعك قبل ما تسافر ؟”

     *5102 والسفر*

    “ضبوا الشناتي”

    رح نسافر الأسبوع الجاي ومتلنا متل كتير سوريين رح نسافر

    [تهريب]

    بالوقت يلي قررنا نسافر فيه حتى نشوف ناس منحبن ونودعن على أمل لقاء قريب بعيد ما كنا منعرف….

    •رح نوصل حتى نشوفو ؟

    •رح يصير شي عالطريق؟

    •في حدا رح يحكي شي مع شب عمرو 81 مسافر ومعو تأجيل؟

    •إذا طفلة مو محجبة ممكن حدا يتعرضلا؟

    من عادات وتقاليد الحلبيّة انن بيعرفو كيف ينبسطو..

    كان الطريق عبارة عن سيران

    مليان أحاديث مع ترقب وخوف من المجهول..

     31 ساعة حتى توصل على مكان كنت توصلو قبل الحرب ب ساعة هو أمر متعب وبخوف.

    وصلنا عند أول حاجز للنظام السابق.

    الشباب يتفضلو لعنا المعلم بدو ياكن

    مع شوية مصاري ودخان المعلم ما بيبقى بدو ولاشب، وهيك مضي كل الطريق والحواجز معروف كيف بتم التعامل معا

    وصلنا على حواجز الطرف التاني

    وكمان مرة تانية الشباب لازم ينزلو حتى يشوفن الريس.

    مرق أصعب وقت ومضينا مراحل كتيرة وخطوات لحد ما وصلنا عالحدود

    ” *المرحلة الحاسمة”*

    بيناتنا كم متر ومنوصل عالأراضي التركية

    ولاد/شباب/بنات/كبار بالعمر/أطفال رضّع/عوائل كاملة من مختلف الطوائف والمحافظات كانو مجتمعين وكلن قلب واحد أو هيك كان المفروض يكونو

    كل حدا فين الو قصة مختلفة

    وحلم ما قدر يحققو، وعلى أمل يتحقق ببقعة جغرافية بعيدة عن الحرب والظلم يلي عاشوه ببلدن.

    الكل كان مترقب إشارة أو صوت حتى يعبر هاد الطريق المليان رمل حجار شوك وتيل مانع إضافة لوجود ألغام متفرقة بتتفجر لمجرد أنّو تلمسا.

    فجأة طلع صوت “يلاا”

    الكل صار يركض

    فقدو الوعي والكل بس بدو يركض وينفد بحالو

    طريق مليان ناس وصوت عضم عم ينكسر {خالة بعمر ال06 واكتر، جسما ما ساعدا اني تركض تفركشت بالحجر ووقعت، ماحدا ساعدا أو بعّد عنا بالعكس صارت جسر ليعبرو الناس}

    بهيك منظر مرعب كان الأولوية النا انو نرجع ونلاقي مكان تاني نحاول نروح منو

    شاء القدر وقدرنا نلاقي معبر صغير تاني..

    ركضنا وركضنا وركضنا حتى خلص هاد الطريق

    سيارات سوزوكي عم تنتظرنا

    حتى نطلع فين لياخدونا على مكان تاني

    العيل تفرقت، جزء منن قدر يعبر الطريق وجزء لسا عم يحاول، ناس مسكتا الشرطة وما معروف شو رح يصير فين…

    •رح يرجعو؟

    •ممكن يقتلون؟

    •معقول ينفقدو ومانعرف عنن ولاشي؟

    وصلنا وقضينا وقت حلو  *ولكن* وعلى قولة فيروز

    “لكن بالآخر في آخر في وقت فراق”

    ضبينا غراضنا وقررنا نرجع ومتيقنين بأني الطريق رح يكون أسهل.

    وصلنا على مكان التهريب، مو نفس المكان يلي جينا منو

    مكان جديد.

     حفرة مو شارع، الناس مالن موجودين، نحن لحالنا، شو لازم نعمل؟؟؟

     تيل وشوك بلور مكسر،عناصر شرطة موجودين حوالي هالحفرة.

    •وين الأشخاص يلي كانو معنا وقت جينا؟

    •ليش نحن بس يلي رح نرجع؟

    •معقول مانعرف نطلع من هالحفرة ونموت هون؟

    أخدنا إشارة وصار لازم ننزل من هالحفرة ونطلع من الطرف التاني حتى نوصل للأراضي السورية.

    حاولت اتخيل اني هاد بركة سباحة مو حفرة مليانة بلور وشوك وحجار، كان الموضوع أصعب بكتير من المتوقع

    ولمجرد ما قربنا نجتاز هالحفرة

    كنا مجروحين بسبب كمية البلور والشوك.

    كل حدا فينا كانت إصابتو مختلفة، الإصابة الأكبر كانت ب إيد ماما

    العضم مبين.

    الدم بكل مكان.

    دموعك تلقائيا بتصير تنزل متل الشلال

    •شو لازم نعمل؟

    الشرطة التركية انتبهت وساعدتنا اني نطلع بس جبرتنا اني نرجع على تركيا.

    رحنا على مشفى مشان الجروح يلي صابتنا.

    وبقينا حتى قدرت ماما تتعافى.

    للمرة التالتة خلال شهر ونص

    رح نرجع نجرب تجربة التهريب

    بس هالمرة مو طريق طويل ولا حفرة.

    رجعنا ب سيارة ودخلنا من الحدود كيف وشلون ؟

    الجواب ببساطة:

     كل ما دفعت أكتر كل ما بتلاقي حلول أكثر أمانا

    •يا ترى كانت مستاهلة نخاطر كل هاد؟

    • لو ماما كان صايرلا شي عالطريق رح نقدر نسامح حالنا؟

    • رح ارجع اقدر عيد هالمغامرة مرة تانية؟!

     4202

    خلص زمن التهريب راح، هالمرة رح نسافر بس نظامي وكلشي تمام التمام

    جيبو جوازات السفر يلي ضليتو 12 ساعة واقفين على الدور حتى استلمتون، بيان عائلي، حياة جامعية، وراق كتيرة ومعاملات ضلينا عم نشتغل فين أشهر حتى نطلع ونعمل مقابلة ب لبنان على أمل نرجع نلتقي.

    تحدد الموعد حجزنا السيارة

    _وراق المقابلة وموعد المقابلة ✅

    _ حجز فندقي مع مصاري كاش✅

    _ بطاقة نقابة بتسمحلك تدخل أنت وعيلتك على لبنان لمدة 51 يوم✅

    كل هالاثباتات يلي بتسمحلي ادخل بشكل نظامي، ما كانت مخليتني اتوقع اني ممكن ارجع عيد تجربة التهريب مرة تانية.

    سبق وقلت أهل حلب بحبو البسط، طول الطريق رواق أغاني هادية سوالف وحكايا

    وصلنا عالحدود اللبنانية السورية 05.6 مساء

    الشرطة اللبنانية اعتذرت مننا

    وقت الدخول على أراضينا لل00.6 فقط

    بعد كثير من المحاولات

    وافقو انن يشوفو الأوراق والثبوتيات يلي معنا

    وإذ كانت المفاجأة الكبيرة

    مافي أي شي بيسمحلي اني ادخل بشكل نظامي

    _مو وصلان إشعار عالحدود باسمائنا

    _ لو كنت مسافرة بالطيران كنت بستفيد من موضوع الحجز الفندقي

    _عمرك فوق ال81 والبطاقة النقابية بتدخل الأب ومرافق معو زوجته فقط

     أهلي مارضيو يتركوني ارجع على سوريا لحالي

    قررنا نرجع على حمص وننام ليلة هنيك حتى نقدر الصبح نراجع السفارة ونشوف وضع الاشعار

    باليوم التاني فقنا الصبح

    ورجعنا عالحدود

    وللأسف ماكان الي نصيب اني جرب شعور ادخل نظامي على شي بلد

    بعد محاولات كتيرة قدرت اقنع أهلي اني ادخل بس تهريب

    وهنن بدخلو نظامي ومنلتقى هنيك

    بلشت الرحلة بس بطريقة مختلفة

    هالمرة رح كون لحالي

    رجعت عالحدود السورية بعد ما كنت طالعة خمس دقايق

    وصرفت 001$ كرمال ثيادتو يكون رضيان علي لأني مغتربة

    وجاي ع سوريا.

    طلعت من الحدود، انتظرت سيارة الشخص يلي رح يطالعني

    وكان الطريق السهل الممتنع

    عبرنا النهر مشي

    وبعدا بلشو الموتورات طلعنا أنا ومعي مجموعة أشخاص عالموتورات، خطرلي اسأل وين نحن

    ف خبرني الشوفير اني صرنا ب لبنان.

    كنت مفكرة اني الموضوع خلص هون وقربت وصل

    بس للأسف كان يوم مليان مغامرات خبروني انو رح اطلع بخزان لفترة صغيرة شي خمس دقايق

    المفروض مني ما خاف

    ورح وصل على بيروت بسرعة

    وصلنا للمكان المحدد بعد اكتر من خمس ساعات

    شفت كتير أشخاص أهدافن بسيطة وصعبة “نلاقي شغل حتى نقدر ناكل و نطعمي أولادنا وأهلنا”

    الناس يلي عايشين جوا سوريا عايشين عالحوالات والسرقة

    مرقو كم ساعة وصار وقت الشيء المخيف “الخزان”

    كان عبارة عن قبر فيه أنبوبين تنفس وضو

    عبرنا ووصلت بعد عذاب كتير كبير

    بس الأهم وصلت

    •ليش عملتي هاد كلو وعرضتي حياتك للخطر بس كرمال مقابلة؟

    *أكيد لا كنت رح شوف العصفور يلي طار من عشر سنين ورجع هدّى ونزل على لبنان.

    •شو صار بالمقابلة؟

    *انرفضت وبدون أسباب مقنعة.

    •رح ترجعو تلتقو برا سوريا؟

    *خلصت الحرب وتحررت سوريا ورح نرجع نلتقى ببيتنا الحنون ونصنع ذكريات جديدة بعيدة عن كلشي صار معنا قبل.

  • في البحث عن الجدوى

    في البحث عن الجدوى

    لا شيء، ولا سياق،  ومعظم الأسئلة تصاغ لتقود إلى أجوبة محددة سلفاً.

    في عائلة إسلامية ولدت، لأمٍ سورية والدها مطارد وهارب من قبل مخابرات النظام السوري منذ منتصف السبعينات، فرّ إلى لبنان حتى اندلاع الحرب الأهلية ومنها إلى ليبيا، حيث بدأ التعاون بين نظامي الأسد والقذافي لنصبح جميعاً كعائلة نفرّ من مكان إلى آخر بحثاً عن ملاذ آمن بعيداً عن أيدي النظام السوري، ملاحقين دوماً مراقبين في كلّ مكان.

    لذلك لم أفكر يوماً أن الحقد الذي أكنه للنظام السوري هو حقد غريب أو هو أمر مستهجن، لم يكنّ حقدي موجهاً على النظام الساقط فحسب بل على كل الأنظمة القمعية في المنطقة من نظام صدام حسين في العراق إلى جمال عبد الناصر في مصر، ومع هذا استطعت الاحتفاظ بهذا الحقد في داخلي، قمت باحكام ضبطته فحتى أهلي المقربين مني لم يكونا يدركان وجوده.

    بالنسبة لي اعتبر دول المنطقة التي انعطفت تجاه تبني الفكر اليميني الديني عوضاً عن الاشتراكية شبه اليسارية – التي في منظوري هي الأنظمة الشمولية القمعية- أكثر تسامحاً مع الواقع وأكثر احتراماً لحقوق سكانها بالرغم من تبينهم اليمين الإسلامي السني كما في الأردن ومصر، إذ كان يعنيهم بشكل أساسي تصدير صورة الدولة المتسامحة للخارج والاندماج مع كلّ جديد في العالم والانفتاح على العالم الرأسمالي عوضاً عن الانغلاق.

    كان لابدّ من تغيير  كنت انتظره دوماً، بدأ مع مظاهرات تونس ومصر وليبيا ليصل أخيراً إلى سورية، غمرني الحزن رغبت بالممشاركة بكل طاقتي، رغم وعيي بصغر سني كم تمنيت أن أكون أكبر.

    في بداية الثورة شاركت بالفعاليات التي نظمها السوريون في الأردن، حاولت عد تفويت أيّ فعالية، كان القسم الأكبر من المشاركين هم مهجري الثمانينات الذي يتبنى أغلبهم فكر الأخوان المسلمين، كم تمنيت في تلك الفعاليات واللحظات أن أكون أكثر وعياً لأكون أكثر قدرة على المشاركة الفاعلة حتى أني كنت بكل عفوية أخبر أصدقاء عائلتي عن رغبتي بالتواجد في سورية والقتال وكان ذلك قبل أن تتحول مسيرة الثورة إلى ثورة مسلحة.

    لم يفاجئني يوماً عنف النظام الساقط، كنت قد عرفت عنه منذ طفولتي، منذ هروبنا، ومن اطلاعي على كتب تفضح إجرامه مثل كتاب ” حماة مأساة العصر” وكتاب “مجزرة حماه حقائق وأرقام”، بالإضافة للأناشيد الدينية التي كانت توزع على أشرطة كاسيتات توزع بسرية كانت تقتنيها عائلة جدتي، وهي بغالبيتها أناشيد جهادية تخص الإخوان المسلمين كانوا ينشدونها منذ الثمانينات، كان عنف النظام راسخ في ذاكرتي منذ الصغر.

    كانت التغيرات تحصل بشكل متسارع على أكثر من صعيد بداية من النواة الصغرى وهي العائلة، بدأت الأحاديث تتغير داخل إطار عائلتي الصغيرة، حيث أصبح الخطاب الداخلي أكثر طائفية، ظهرت ملامح انتماء عائلتي للفكر اليميني السني أكثر وضوحاً إذ بدأنا نتاول ثنائية سني/ شيعي أثناء حواراتنا، تلك الحوارات التي بدأت أدرك أنها مغمورة بحقد غير واعي وتجتر خطاب قديم وتبني تقسيمات جديدة وتعزز الحقد والتفرقة القائمة على بكائيات يتم تحميلها ما لا يسع.

    كنت أشعر بالغرابة من الحديث الطائفي بالرغم من حقدي على المنظومة الأسدية، لم أعي و أفهم تماماً سبب انتقالنا من دعم حزب الله في حرب تموز واعتباره رمز للمقاومة والقول بأنهم “يشبهوننا. كلنا مسلمون” وفجأة نتحول بعد الثورة لنقول أنهم مجرمون وأخطر من اليهود، هم مشركون، نحن فقط الطائفة الناجية.

    كان كلّ شيء يتسارع وكانت الصدامات تحتد في عمان، حيث في بعض المرات كان مؤيدو النظام يشتموننا أثناء توجهنا لتظاهرة أمام السفارة السورية في عمان، وكنا نجرب لأول مرة الإجهار برأينا ومشاعرنا وعواطفنا، أذكر جدتي المنفية في الخليج وهي تهتف بإسقاط النظام لأول مرة ودموع الفرح تغمرها رغم الخوف، خلال عامين من الثورة كنت أرى النساء يتخلين عن ذهبهن ليتم إرسال النقود للثوار وكنت أرى حملات التبرع تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي وضمن ملتقيات السوريين في الغربة.

    وبينما كانت “الطائفة الناجية” تذبح بالسكاكين وتخنق بالكيماوي وتهرب جماعات نحو بر الأمان، كنت أتذكر زميلي في الجامعة الأردنية “جهاد شعراوي” الذي قتل عام 3102 وهو يقاتل مع جبهة النصرة، لم يسبق لي أن التقيت به، ولكن الحقد التراكمي وشعوري بالمظلومية دفعني للتصريح علناً برغبتي بالقتال إلى جانب الجيش الحر، يومها سخر مني زملائي، وكانوا يقولون: مع أي فصيل منهم تريدين القتال؟ يومها سحبني أحد الزملاء وقال لي: “الموت هناك مجاني، لا جدوى منه”. 

    اليوم لم أعد أرى كلمات هذا الزميل كلمات مهزومة بل صرت أعي أهميتها، ولكن في تلك الفترة كنت جاهزة للصدام والمناوشات والغضب، كانت فترة الجامعة من أصعب الفترات وأكثرها توتراً، ففي كلية العلوم السياسية التي درست بها لا مجال من الهرب من نقاشات حول الثورة السورية المندلعة، والاصطدام مع مختلف الأراء، اذكر خلافاً دار بيني وبين أحد المدرسين اللذين يتبنون خطاب المؤامرة الدولية على سورية وكل ما نشهده من تحركات في البلدان العربية له أيدي خفية تحركه، كان هذا الحديث يستفزني، ومع هذا قدمت له كتاب المفكر “سلامة كيلة” وهو “الثورة السورية من منظور ماركسي”، باعتقادٍ مني أنه قد يطلع أكثر على الواقع العربي.

    تأثرت كثيراً في تلك المرحلة بالمقالات والكتب التي قرأتها وأظن أن من أني بالفئة القليلة التي لم تنخدع بالإعلام العالمي، حيث بدأت ألحظ توجهات الإعلام والتمس ثغراتها وهفواتهم أثناء تغطيتهم الصراع في سورية بشكل أساسي، فالقنوات تتبع لتوجهات الداعمين لها وتغير خطابها وفقاً لميولهم السياسة فتارة نرى قناة تذيع خبر عن تقدم الجيش الحر إلى منطقة معينة وتارة تقول أن المنطقة نفسها تحت سيطرة جبهة النصرة هم فقط أبواق لسلطات أكبر منهم.

    تساءلت كثيراً: إن كانت القوة وفكرة السلطة تقوم على احتكار القوة إذاً ما الفرق بين النظام والأنظمة التي تعاديه؟ تأتي الإجابة دائما على شكل الانغماس بالدم والتلذذ بأساليب التعذيب، وإن كانت الأنظمة تقاس بقوة السلاح، فما الفرق بين القامع والمُقاوم؟ بين من يعذب باسم الاستقرار ومن يعذب باسم الثورة؟ بدأت أميل لتبني فكر اليسار الكلاسيكي الذي ينظر لكل شيء من وجهة نظر الاقتصاد، لكن الرؤية الاقتصادية للصراع السوري وحدها لا تفسر تعقيدات الدم السوري.

    عمق المأساة السورية بدأت أراه من تحالف الأنظمة وتدخلها فيها، لطالما تساءلت عن أسباب وقوف دول الخليج القامعة للحريات مع حرية شعوب أخرى؟ ولما يقف النظام الأردني ضد القتل في سورية بينما يرسل قواته لقمع متظاهري البحرين؟ كلها لعبة دولية.

    في تلك المرحلة من التشظي والضياع بين الأفكار، كانت الأحداث على الأرض تكرر عنف الماضي وروايته بتنا نعيش أدب السجون الذي قرأته وعرفته تماماً يوميا، كل شيء يتكرر رواية “القوقعة” أصبحت واقع يومي نعيشه نسمعه مع اقربائنا واحبابنا، قصص اللاجئات واللاجئين السوريين و قصص الناجين والناجيات من الاعتقال كلها باتت يوميات سورية، فالوجع السوري موزع في كل بيت على طول الجغرافيا السورية.

    ولكن نحن السوريين والسوريات أقوى، في كل لقاء لي مع ناجية سورية أثبت نظريتي، نحن أقوى من القهر، كل ناجية كانت تحكي ما وراء الاعتقال وماوراء القصف وما وراء التهجير والسجن والضياع، تحكي قصة مجتزأة تحوي ثغرات، لا تريد ترميمها اليوم، ترممها باليوميات وكأن كل ماحدث هو صيرورة الحياة العادية.

    ولكن يوجد حالات أقسى من قدرة الناجية على الاحتمال، فجارتي التي خرجت من السجن لم تنطق إلا بجملة واحدة “لم أغتصب”، والأخرى خرجت صامتة صمتاً أبلغ من كل الكلمات.

    كلّ هذا حدث في صمت من الدول مجرد تنديدات وبيانات دون تدخل بالكارثة والفاجعة السورية، أصبحت الساحة اليوم ساحة اقتتال بين فصائل ممولة ومدعومة من جهات لها اجنداتها وبين النظام الأسدي، حتى ظهور تنظيم الدولة الإسلامية بكل فجاجته وتوحشه لم يغير شيء من خارطة الصراع سوى زيادة بكمية التنديدات والوعود، عاماً تلو عام بدأت معالم الصراع تتوضح وأهداف الدول المتدخلة تغدو أكثر شفافية النظام وحلفائه والمعارضة المسلحة والتنظيمات الإسلامية والداعمين لها.

    في ربع الصراع الأخيرة بدأت الكفة تميل ميل النظام وحلفائه خصوصاً بعد بسطه السيطرة على أغلب مناطق سورية، وإعلانه الحامي الوحيد لسورية من الإرهاب والتطرف الذي وسمت بهما المعارضة، سمحت هذا الفترة بالتغاضي عن كل ما يدين النظام من صور قيصر إلى فضيحة مجزرة حي التضامن ومجزرة الكيماوي، وصلت إلى مرحلة عدم الفهم وعدم اليقين كنت أتساءل “هل العالم أعمى؟” هل وحدي من أرى؟ أقتل المدنيين أمر يغتفر؟”.

    كل شيء صار قابلاً لتشكيك، وكلهم يتآمرون ضد ذاكرتي، حذف أرشيف الثورة السورية من الأنترنت، أصبحت أشكك بحقيقة أيقونات الثورة من القاشوش لحمزة الخطيب، كلّ شيء قابل للتكذيب من قبل النظام الذي نال شرعية دولية ولايزال موجود، والعالم منقسم يتفرق على مقتلة السوريين.

    كنت أبحث عن صوتي وسط هذا الضجيج، عن تقاطع القهر والهوية، عن النساء والكوير والسجناء في الحرب السورية عن مأساتنا وسرديتنا الجمعية نحن المعذبون، انهمكت في البحث فوجدت بعض المقالات وبعض القصص التي ساعدتني لأشعر أني لست وحيدة، معاناتنا واحدة واصواتنا عليها أن تسمع، صوت اضطهاد النساء صوت قسوة وغربة النزوح قسوة الهجرة واللجوء قسوة وعنف خسارة البيت قهر الفقدان، بالرغم من خطاب النظام ضدنا علينا أن نطرح سرديتنا ونطرح خطابنا المضاد ونتكلم عن ما حدث ويحدث حتى تنتفي سردية النظام.

    في النهاية سقط الأسد، وسقطت سرديته وكشفت الأقنعة، عيوننا بكت وذاكرتنا تصرخ ومازال الكثير مسكوتاً عنه، علينا بالكلام والقول علينا تدوين ما حصل وما يحصل فالضحايا والناجون والناجيات هم أصحاب الرواية وليس أصحاب السلطة وقادة الصراع، لم نملك الصواريخ نحن ولكن نحن من قُتلنا ومتنا ونجونا.

  • لغز السلك الكهربائي السحري!

    لغز السلك الكهربائي السحري!

    “- يا بيك، لو بدل الإذاعة عمرتولنا سد بـ وقف بـ وش الطوفان، مو كان أفيد للضيعة؟..
    — له يا أبو شحادة، على حساب إنت بتخاف الله وبتصلي لك يا إبني… هذا الطوفان جاي من عند الله.. حطلّك سد بوشو
     لك مو حرام؟!!!!… أنا ما بعملا…! يجي بيك غيري يعملا… في آخرة شو هالحكي…! استغفر ربّك استغفر ربّك!!!!”

    حوار من مسرحية “غربة” ل محمد الماغوط، اعتمده صانعا أفلام وثائقية كمدخل درامي ومفاهيمي للشريط التعريفي القصير الذي عرضاه للتعريف بفلمهما ضمن تدريب في ورشة عمل لصناعة الأفلام الوثائقية ب دمشق 3202. كان الفيلم يبحث في الاغتراب المعرفي الهوياتي الوطني بين مفاهيم الطفولة قبل وبعد بدء الحرب/الثورة/الأزمة في 1102.

    كان رد فعل المشاركين _ بين الـ 52 والـ53 عاما_ أن الطرح البصري والمشهدي (خشبي وقديم وميّت…. وأن هذا “الخطاب” الذي تستدعيانه إنما هو تموّت فكري وهو مسبب للأشكال الدكتاتورية في العالم بأسره. مات زمن الأيديولوجيات).

    قبل هذه الحادثة بـ 93 عاماً ولدت وعشت في منزل به مؤلفات وصور “لينين” و”ستالين” و”ماركس” و”إنغيلز” و”عبد الله أوجلان” و”مهدي عامل” و”جيفارا” و”كاسترو” و”هو شي منه”… عشت في المنزل مع إخوتي وأبي القيادي في الحزب الشيوعي (بكداش) في الستينات، والدي نفسه؛ هو منعنا من الانتساب لأي حزب شيوعي، ودفعنا _ولو بالضغط_ لقبول الانتساب لـ البعث تجنباً للمشاكل، وهو الذي عمل 44 سنة بعيدا عن عائلته في السعودية معقل التطرف والتدين والرجعية حسب وصفه، وهو الذي ردد دائماً: “كنا يساريين شيوعيين وقياديين وناضلنا، وخلصت، هلق انتو لازم تعيشو…” ليخبرنا أن الذي عاشه كان عكس الحياة.

    وللمفارقة أن أمّي، المصنفة ضمن العقول البسيطة وفق تعابير مثقفي المرحلة تلك، أمي هي التي أتاحت لي الفرصة الكبرى للتعلم والتعرف على المناهج الفكرية المختلفة وفق حكمتها الجدلية: ” وحدو الميّت ما بهمّو يتعلم او يتعرف ع شي جديد”، ودخلت حلقات الحزبين الشيوعيين المنضويان تحت السلطة الرسمية، وحزب العمل الشيوعي بروح رفاقه المنكسرة. غنيّت أغاني سميح شقير ومارسيل خليفة في سهرات اليساريين الثملين بنشوة الحزن والانكسار العربي/الكردي/الشرق أوسطي والحنين لانتصارات عاشها الاتحاد السوفييتي وليس هم، سمعوا عنها ولم يقرؤوها حتى.

    سردوا ذات الخطاب الصادر في الجريدتين الرسميتين، ومرة قال أحد أبناء القياديين: “خلافنا مع حزب الله أيديولوجياً، وحتى لو نلتقي معه كفاحياً لكننا لا نتراجع أيديولوجياً قيد أنملة…” ولم يشرح ما عناه فلم أفهم، وحرجاً لم أسال، فاضطررت للغوص في معنى أيديولوجيا والأدلجة، في كتب القومية في المدرسة وفي المراجع المتاحة في مكتبة المركز الثقافي، ولم أفهم.

    عدت وسألتهم، ولم أفهم، سألت أبي، ولم أفهم… لم أفهم حقاً كيف اتفقواً جميعاً على ذات الصياغة وذات الفهم والمصطلحات وذات الخطاب، حركات اليدين وخيانة اليسار لليسار، الصراع بين مؤيدي تروتسكي وجماعة أبو عمّار، لماذا تحالف رياض مع الإخوان، طوفان الرفاق الأكراد الذين حضروا عيد ميلاد الحزب في السويداء في الستينات، وذات المقتطفات من ذات المؤتمرات، ذات الطيبة والهزيمة والانكسار.. وذكريات الاتحاد السوفييتي ذاتها.

    اتفقوا على كل ذلك ولم يتوصلوا لإفهام مراهق في الـ 51 من عمره ما مشكلة الأيديولوجيا واليسار والشيوعية إذا كان هذا الفكر الرائع بهذه الرؤية العظيمة، ما مشكلتهم، لماذا لا نعيش في ذاك النعيم، من وكيف ولماذا سُرق منّا الاتحاد السوفييتي الذي لا يمكننا التعرف إليه اليوم…؟

    لم أفهم لماذا كنّا، نحن الشباب اليساري، كلنا حصراً أبناء يساريين أشدّاء سابقين، متعالين على غيرنا من “الجهلة” الغافلين غير الآبهين بنا، وكأننا ورثة مملكة بين الكواكب خسرها آباءنا وطُردنا منها، فنستعيد إرثها بحنين وحزن ومظلومية…

    كان أعتى اليساريين _الشيوعيين والناصريين والقوميين والفوضويين_ يبنون خطابهن على لعنة أمريكا والرأسمالية، والترحم على الأمل في الاتحاد السوفييتي… وفقط…. فقط…. أي سؤال بعد ذلك كان مبرراً للتعالي والتسلط في المصطلحات، وأي أفق بعد ذلك كان مغلقاً وبانتظار السوفييت أن يعودوا ويجترحوا المعجزة مرة أخرى…

    هنالك شيء ما مفقود في معلوماتنا! هذا كان جوابي عن تفجيرات 11 أيلول بين رفاقي المراهقين الذين يتناقشون معي بصفة المثقف اليساري. هناك شيء مفقود في معرفتنا، حتماً، لهذا لم نفهم لماذا غزى الجيش الأمريكي أفغانستان، ولم أفهم أنا لماذا كنت أدمع في الساعة 3 صباح 91 آذار يوم اجتياح العراق وانا أتحضر لامتحان الثانوية العامة. المفقود في معرفتنا كان ما بعد تلك الـ (فقط)، لأنها تعني أن كل الفعل توقف هنا، بيننا، نحن، من نفهم المصطلحات بيننا، وفقط، لا فعل خارج سهرات السمر، ولا خارج مكاتب القيادة، ولا خارج دوائر الرفاق المحطمين بعد اعتقال وتعذيب وفقدان الأحباء والرفاق… لا يوجد يسار خارجنا…
    واليسار حصد اسمه في التاريخ عندما وقف من يدافع عن مصالح الجماهير على يسار الخصوم، لكن أنا كنت بين جماهير تكره اليسار، لأنها لا تعرفه كما أعرفه أنا ربما؟… كيف إذا أنا يساري، والجماهير تكره اليسار الذي من المفترض أن يدافع عن مصالحها؟.. إذاُ أنا لست بين الجماهير، ولا أحد ولا رفيق من اليسار الطرب حزناً كان بين الجماهير!!!…
    والجماهير… الجماهير في التصاريح الفوقية التي تناسخها عتاة اليسار إياهم، بالوصف العاجز المحبط المهزوم للجماهير دوماَ.. وإذا سألت : إذاً كيف لنا أن نصنع جماهير حرّة واعية غير محبطة ولا مهزومة؟ كان الجواب لطمية يسارية على أنغام نشيد كاتيوشا السوفييتي..!

    معرفة 1:

    ” لنأخذ سلكاً كهربائياً، يخبرنا العلم أن فيه الكترونات تمتلك طاقة وتتحرك عشوائياً، فإذا وضعنا لمبة على هذا السلك المنعزل الوحيد، لن تضيء، رغم وجود الالكترون بطاقته المطلوبة والناقل، ووضوح الهدف، النور.. رغم ذلك لن تضيء اللبمة، لن تضيء حتى نضع خلية ثنائية القطب، هي البطارية، ينتج النور… علمياً بسبب التيار الكهربائي الناتج عن الاستقطاب الذي طبقته البطارية على الالكترونات، الاستقطاب الذي (نظّم ووجه حركة الالكترونات)… الحزب السياسي أو التنظيم السياسي هو هذه البطارية التي تنظم وتوجه حركة الطبقة/الجماهير/المجتمعات التي تنتمي لها…”

    هذا الفهم العميق والمباشر، بهذه الدرجة من البساطة قد حلّ معضلة العلاقة مع الجماهير… العمل التنظيمي، اليومي المضني، هو الأداة الأساسية لـ نوجّه طاقتنا كجماهير.. بهذه الواقعية والبساطة..

    فان أكون يسارياً أدافع عن مصالح الجماهير يعني أني أولاً من هذه الجماهير أسعى لتحركيها، يعني ان أعمل يومياً لقضيتنا، يعني أني مواجه ومشتبك، يعني أننا في عملية تنظيم وتوجيه مستمرة لقوانا وطاقتنا، ولأنه لا يكفي أن تؤمن “البطارية” بقدرة الالكترون على الحركة، بل تقوم بفرزه وتوجيهه، كذا لا يكفي أن يؤمن التنظيم ب طاقتنا ك جماهير وفقط، بل المطلوب ممارسة فعل نقدي جدلي، واقعي وثوري، يعطي الجماهير سلاحها في القدرة على التحليل والفهم.. كي ندرك خطورة أكبر عملية احتيال وأهمية أكبر حالة استعصاء في التاريخ..

    معرفة 2:

    منذ نهاية السبعينيات نشأ تناقض مدمر بين إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي الذي بلغ 601 ترليون دولار في 3202 ، وبين إجمالي عدد ورق الدولار المطبوع في العالم والذي يزيد عن 006 ترليون دولار..

    أي أن 005 ترليون دولار مطبوعة ولا يحتاجها أحد على كوكب الأرض..

    أي أن الوزن الحقيقي للولايات المتحدة في القرار الدولي هو خمس ما تحوزه عليه اليوم… وبالتالي فالصراع متمحور على هذه الجدلية، وبالتالي يمكن فهم وتحليل حركات الخصم، والسعي لتوقعها وحتى التحكم بنتائجها، وحينها سنحقق التغيير الذي نسعى له يا “جماهير قلبي”… وبالتالي أفهم الآن الضرورة لدى خصمي، ك جماهير..
    وأفهم لماذا الولايات المتحدة والدول الغربية ذهبت لحرب أفغانستان والعراق.. ويمكنني أن أتنبأ حدوث أزمة الـ 8002 .. ويمكنني توقع تراجع الأمريكي في المنطقة وقياسه واقعياً..
    يمكنني البناء على فهم للتوازن الدولي أنه لم يعد يخدم الخصم الامبريالي سوى تحقيق أعلى مستوى فوضى وتفجير في مناطق سيطرتها هنا ضمن عملية التراجع..
    بالتالي، يمكنني، بلا أي حزن يساري، ولا انكسار، ولا لطميات.. يمكنني القول أن الأفق ينفتح أمام الشعوب وينغلق أمام أعدائها التاريخيين، ويمكنني أن أكون يساراً يقف في جهة مصالح الجماهير، أقوم بدوري في الفهم والفرز وتحقيق التحكم، لأنني أملك منصة معرفية.

    معرفة 3 : الفكر الثوري لا يمكن أن ينفصل عن سلوك ثوري…

    كانوا عاجزين علمياً، بلا منصة معرفية حقيقية…

    العجز العلمي حرم المحاصرين في “يسار” عربي أو شرقي، حرمهم القدرة على تحقيق معادلة تفسير – تحكّم – تغيير، المعادلة الحتمية في التعامل مع أتفه القضايا وأكبرها، العجز عن التفسير الثوري الديالكتيكي المرتبط حتماً بالتغيير. واليوم، كما في عام 2005، أن تكون يسارياً يعني أن تعتنق سلوكاً ثورياً، القضايا ليست ترفاً، والعمل التنظيمي يتطلب القدرةً على الإجابة عن أسئلة أصحاب المصلحة، ويتطلب حتماً القدرة على التعلم، والتعلم حتماً يتطلب قراءة وفهم التاريخ، هكذا تبنى منصة معرفة، هكذا ينتصر من ينتصر معرفياً.

    اليسار هي جهة الشعوب، والشعوب هي صاحبة القوة المطلقة والشعوب حتماً لا تعني أن تبقى دوماً مظلومةً…  وأن تكون يسارياً يعني أن تعي قوة الشعوب وتنتصر بها ولها، أن تنتصر بدل الهزيمة، أن تكون مؤمن علمياً بحركة التاريخ وقوانين الطبيعة وحتمية التطوّر والتغيير، وأن تكون الأشد عاطفية في الدفاع ضد كل الظلم، لا أن تجترّ لطمية المهزوم البائس.. واليسار هي جهة الشعوب لا تعني أن تكون خاسراً أبداً، وإنما يعني أنك قادر على قلب المعادلة والانتصار.. اليسار رغبة بالحياة لأننا نملك العقل والقلب لتغيير هذا العالم… ولأن “وحده الميت ما بيتعلم شي جديد”!.

    في سنة 3202 ، في ورشة عمل للأفلام الوثائقية في دمشق، مجموعة أصدقائي السينمائيين الشباب تعاطوا معي أنا وشريكي بحالة شفقة لأننا لا زلنا نؤمن بالتغيير، واتفقوا جميعاُ على أن كل مقولات النضال لأجل العدالة خشبية، واليسار وهم والأيديولوجيا موت، حينها لم يكن أحد منهم يصدقني في تحليلي ل حتمية انهيار الشكل الحالي للنظام السياسي في سورية “نظام الأسد”، كانوا جميعاً في قعر اليأس، وانتشوا جميعاً بعد 8 كانون الأول 4202، ثم عادوا لقعر اليأس بعد 3 أشهر، ومجدداً عادوا للبحث في سبل الاغتراب أكثر وأكثر..

    في 5002، كما في 1102، كما في 3202، وكما في 5202/3/8 خلال المجازر في جبال الساحل السورية، ارتدت الفئة المثقفة، النخبة اليسارية الكئيبة المنعزلة ذاتها، مجدداً إلى النكوص والخوف وإعلان ان هذه البلاد لا يمكن تغييرها…

    في هذا الوقت، كان اليسار، الجماهير، الشعوب، في كل مرة، تربّي تجربتها الخاصة، تتعلم، تدفع الثمن من لحمها، وتمضي للأمام… والضرورة تفرض نفسها، ومن يملك منصة معرفية يدرك الضرورة لكل ظاهرة، ويدرك أهمية تنظيم الشعوب لتسريع عملية التغيير..

    أعي الآن ما كان ينقص، هو أن يمسك أحدهم بقوانين الطبيعة، وإن امتلكنا الفهم ك (فهمانين) ما نحن فاعلين ب هذه المعرفة؟… ان تكون المعرفة أداة تغيير فوق التنظير، أن يكون اليساري خارج الحلقات الآمنة، ألا يتقوقع في برج التنظير الفارغ، وألا يعبدنا نحن الجماهير بقوتنا المهولة وانحرافاتنا الفادحة.. أن اليسار هو التنظيم في قوة الشعوب.. قوة الشعوب هي الطوفان الذي لا يمكن رده ولا منعه، وهذا من القوانين الموضوعية الحتمية للطبيعة!

  • اضطرابات تفارقيّة في مشهد الهوية

    اضطرابات تفارقيّة في مشهد الهوية

    يحاول هذا النص أن يعاين اللجوء السوري من منظور نفسي؛ بشكل أدق، أن ينظر في تشتت الهوية الجمعية الناتج عن التبعثر السوري في العالم ويناقش تقاطعات نتائج هذا التشتت والاضطرابات التفارقية أو الانفصالية (sredosiD evitaicossiD)

    يتحدّث النص عن رحلة الهوية الجامعة ويفترضها شخصاً أو كياناً (لأني أريد أن أتفادى الحديث بصيغة المفرد الغائب الذكر كما هو شائع.)

    سيتخلل هذا النص اقتطاعات. لن تمثّل هذه الاقتطاعات استمرارية موضوعيّةً للنص (وهو المطلوب)، بل ستؤدي دوراً وظيفياً يتماشى والموضوع الأساسي (الاضطرابات التفارقية) أو ما يسمى الاقتطاع.

    أذكر أنّ المحاضرة يومها كانت عن الاضطرابات التفارقية. كما أذكر، لتناقض الأمر، أن تركيزي كان حاضراً دونما انقطاع على غير المعتاد، ولأن هذا الحدث العابر اليومي شاء أن يبقى عالقاً في الذاكرة أو أن يتحول لنصّ ضمن دعوة استكتاب حول “السرديات السّورية”، صادف أن يكون تاريخ هذا اليوم هو ذاته تاريخ خروجي وعائلتي من سوريا قبل عشر سنوات. عقدٌ مرّ على ذكرى الاقتطاع الأول في حياتي، كما كثر غيري لم تسنح لهم الفرصة بأن يكملوا سيرورتهم دونما خلل.

    يتخلل السرديّة السورية حدثٌ لمّا تتبلور نتائجه بعد على ماهية ما يدعى بـ “الهوية السوريّة الجامعة”، ألا وهو المغادرة الجمعية لسوريا، حيث أننا ما زلنا – على تنوّعنا – نعاين عن بعدٍ أبعاد هذا الحدثِ، لأننا، ولحتمية التجرّبة، نجسّد النتائج وننتظر أن نعيش استقراراً ولو كان بسيطاً على الصعيد الخارجي والداخلي، كي نقدر أن نسبر أغوار ما حدث.

    تقول البروفيسورة إن الاضطرابات أو الأعراض التفارقية ترتبط بشكل وثيقٍ بحدثٍ تراوماتي دون القدرة على مواجهته أو استيعابه، ليكون الخروج من الموقف، ولو عقليّاً، الوسيلة الأفضل لحماية الذات من أثر هذا الحدث. وفي ظل حكمٍ دكتاتوري في سوريا امتدّ قرابة الخمسين عاماً تكثّفت فيه سياسات القمع والصّدمات النفسية الناتجة عن العنف، الفقد، أو حالة الذعر المستمرة، لم تكن حركة الخروج مجرّد حدثٍ عارض، بل جزء من كلٍّ سياسي، اقتصاديٍّ ومعيشي لمن لم ينسجموا مع الصيغة المعطاة مسبقاً لكيفية التصرف تحت حكم الأسد. الأمر بسيطٌ، اضطرت هوية المكانِ الجامعة في لحظة ما لأن تغادر، لأن تتبعثر في مختلف أماكن العالم دونما تحضير؛ حدث الأمر فجأة، على عجلٍ وبشكل حتميّ تاركاً وراءه مئات الآلاف من الأفراد (الهويّات الفرديّة) تتخبّط في احتمالات الغد، وتمثّل في ذات الوقت الاقتطاع الذي حصل، تجسّد التغييرات الناتجة عنه.

    اقتطاع أول:

    في ساحة جامعتي المستقبليّة

    الفتاة الشقراء التي تقفز على حبل،

    الشاب الذي ينشز بصوته صمتي،

    شجرةٌ اتكأت عليها،

    حبات المطر الخفيفة،

    الشمس الخجولة،

    غياب صوت الحرب،

    تفاصيلٌ مثقلةُ بالغياب، والبعد. تفاصيل غريبة

    وأنا – في الحنين –

    كنت أحاول ثني الهواء لأختفي. 

    وجدت هذا النص مؤخراً في إحدى دفاتري، وانتابني شعورٌ بالوضوح حينما قرأته، كأنني أقرأ رسالةً عابرةً للزمن منّي إليّ. ثني الهواء للاختفاء، غرابة التفاصيل المحيطة، والميل إلى تشويهها والانسلاخ عنها، ما هي إلا دلالات الانفصال الذي حدث، خصوصاً وأن عمري حينها كان شهرين فقط بعيد المغادرة. 

    تشمل الاضطرابات التفارقية أعراضاً كانفصال عن الذات (noitazilanosrepeD) أو انفصال عن المحيط حيث يعاش كغير واقعي أو مفهوم (noitazilaereD) . أعراض يمكن استشفافها في كثير من التعابير المستخدمة من شفاه سورية في التعبير عن واقعها اليومي، كالشعور بالانفصال عن الجذر، أو الشعور بفقدان جزءٍ من الذات وسط تفاصيل مكانية تبدو بعيدةً رغم قربها المادي وكأنما الفرد يقطن عالماً مزدوجاً: حاضرٌ غير مألوف لمّا يغدو أليفاً لطيفاً بعد، وماض لمّا “يكتمل” بعد؛ لا يأنف أن يكون قريباً رغم بعده. في الترحال ما بين التفاصيل المألوفة والمفروضة تغدو هذه الهوية الجمعية عرضةً للتعب، عرضةً للتنافر في مكوناتها، لا كلل في محاولاتها اختبار شعور الاستمرارية الذي يبدو دوماً أقرب مما هو عليه في الواقع.

    الذاكرة السورية تضمر يوماً بعد يوم، تغدو أبعد وأفقر تفاصيلاً، بالرغم من محاولاتها الدؤوبة بأن تحضر من خلال استعمال أصناف بهارات، زيارة موسيقى قديمة، زراعة نباتاتٍ محددة على “البلكون” أو إضفاء “طابعٍ سوري” على مكان السكن. تبقى هذه المحاولات هزيلة، غير مجدية في الإقناع بأن ما نعيشه اليوم هو امتداد بما عشناه قبل الخروج. على سبيل المثال، في الأشهر الثلاثة الأخيرة وحدها سمعت وقرأت ممن ذهبوا بزيارة قصيرة إلى سوريا بعيد سقوط نظام الأسد بأن الشاورما هناك لها طعم مختلف تماماً، وهذا طبيعي بكل تأكيد، أقصد أنّ الذاكرة الأبعد زمنياً ستصبح على كل حالٍ أضعف في لحظة ما، لكنّ الذاكرة حين يتخللها حدث يعطّل استمراريتها ويقسمها نوعياً إلى “ما قبل” و”ما بعد” الحدث، تضطرب، لا إرادياً، في محاولاتها للوصول لما هو هناك على الضفة الأخرى من هذا الحدث، من المغادرة، كما هو الحال في الاضطرابات التفارقية حيث تبدو الأحداث وكأنما تنتمي إلى “زمنٍ ضائع لا يعود”[1]، إلى عالمٍ مختلف كنّا فيه هويّات شديدة البعد عن الآن، تظهر في ومضات وصور مشوشة غير قادرةٍ على أن توحي، أو تمنح شعوراً بالاستمرارية. الأمر لا يمثّل نسياناً طبيعياً، ويغدو مؤلماً، صارخاً وحدثاً جللاً حينما نعود إلى المكان، إلى سوريا، ولا نجد أنفسنا.. لأننا لم نستمر. نشعر بالاغتراب، نحن من نهيم على وجهنا جماعةً في بحثنا المستمر عن ذواتنا المشتركة.

    كذا هو الأمر أيضاً في الاضطرابات التفارقيّة؛ يصبح الجسد الذاتي غريباً. يحتاج وقتاً وجهداً لكي يبقى أو يعود مألوفاً وقد لا يعود، كما تنظر الهوية السورية المغادرة إلى ذاتها سابقاً كحدثٍ ضبابي لا متجانس مع سيرورة الواقع الحالي، كأمرٍ حدثَ في مكان ما لم أعد أشبهه أو يشبهني، لكنّه يرافقني في صفاتٍ كاسمي مثلاً أو لغتي الداخلية. اغترابٌ آخر. اغترابٌ داخلي حين تعود الهوية السورية إلى الجغرافية السوريّة لتجد أن العملة أصبحت غير مفهومة، وأن الطرقات تغيّرت والحيّ التي ترعرعت فيه قد اكتسب صفاتٍ جديدة خاليةٍ من أثرِها. تدرك الهوية حينها أن الانفصال لا يتعلق فقط بمفهوم الوطن كمساحة ماديّة، بل يمتد إلى الشعور بفقدان “الجسد السوري” ما قبل الاقتطاع، ما قبل المغادرة؛ بمعنى أن الذاكرة الجسدية – الإحساس بالشوارع، الأصوات، الروائح – تستدعي الاستمرارية وتبهت مع الزمن دونها. تدرك الهوية حينها أن شعور الانتماء يتمنى أحيانا وبحزن عميق لو أنّ شيئاً لم يتغير، لو أنّه قد عاد إلى ما تركه ليجده على حاله.

    اقتطاع: كتبت هذا النص القريب جداً من قلبي حينما عدت إلى انتمائي في لحظة ما ولم أجده:  

    حاذري “المضي”، الطريق شديد الانتحار

    الانحدار

    الانحدار

    حاذري “الحياة”، الطريق شديد الانحدار

    الانتحار

    الانتحار

    حاذري المضي، الطريق شديد الانحدار

    الحياة!

    الانتحار؟

    حاذري الحياة، الطريق شديد الانتحار.

    الطريق!؟

    تصل البروفيسورة في شرحها عن الاضطرابات التفارقية إلى تلك حيث يعيش الشخص بعدة هويّات تختلف فيما بينها بالتواصل مع المحيط، أي في طريقة التفكير، في الوجدان، في اللغة وأسلوبها، في الذاكرة المرافقة، في التصرفات والانفعالات، ليجسّد هذا الانتقال بين الهويّات المختلفة آليّة عكسيّة دفاعية للبقاء، لمواجهة الواقع، للتكيّف مع سياقاتٍ مختلفة قد تتناقض فيما بينها. في التجربة السوريّة نجد أن القفز ما بين الهويَات وفقاً لمعطيات المحيط يكاد يكون تلقائياً من المنظور الفردي لضرورته في الانسجام مع التفاصيل، لكنّه يجسّد في ذات الوقت الانقطاع الذي نصادفه ونتكلّم عنه دوماً في الاضطرابات التفارقية. أيضاً من منظورٍ خارجي، من منظور الآخر، الهوية السورية التي لم تغادر تصنّف تلك التي غادرت بأنها بعيدة نوعيّاً وتمثّل اختلافاً. كما هو الحال بالنسبة للهويات السورية المغادرة، فالهوية السوريّة – الألمانية تختلف عن السورية – التركية، أو الهولندية، أو الأردنية والبرازيلية في حيواتها اليومية، لغاتها، مشاعرها ومختلف تفاصيلها حدّ الانقطاع.

    اقتطاع بعيد هروب الأسد:

    صديق: يا ريت فينا نبدّل الأماكن، اللي ضلّو جوا يطلعو عشر سنين لبرا، يعيشو اللي عشناه، واللي طلعو لبرا يرجعو لجوا سوريا عشر سنين، يتحمّلو اللي تحمّلوه اللي ضلو. كل ما فكر باللي بقيو بشعر بخجل واحترام هائل بسبب اللي اضطرو يتحملّوه. لا كهربا، لا مي، ولا أي مقومات للحياة. طبعاً ما عم قول انو هون بالخارج كنّا عم نعيش نزهة. بس اللي عاش غير اللي سمع.

    صديقة: ما بدي حدا يحكي عني، انا ضلّيت بالبلد وعشت اللي ما عاشوه كتار هلق يلي عم يحاولو يحكو عني وعن تجربتي.. تجربتنا كلنا يلي بقينا. من بعد ما صار عندن المصادر والوسائل انهم يطورو من حالهم برا جايين بعد سقوط النظام ياخد مساحات أصوات يلي ضلو. مش عدل هالشي، ولا بدي حدا يقلي عن معاناة البيروقراطية والعنصرية والعيشة بالمجتمع الأبيض لما فيك تشحن موبايلك وتدفي حالك ايمتا ما بدك. بكره اللي بيفرضو عليي بحديثن صيغة ما أنا عشت شي مختلف عنها. لازم نعترف بهاد الاختلاف ونشوفو ونصدق انو ما عنا نفس التجربة.

    سيحتاج الأمر الكثير من الصبر والجهد والحوار المستمر لكي تتكوّن صورة أوضح لماهيّة ما يدعى بهوية المكان الجامعة، وما يزيد الأمر صعوبةً هو غياب المساحة للتفكّر في ممارسة التنوع الإثني، الطائفي أو العرقي للمجتمع السوري في حقبة حكم الأسد الأب والابن على حدّ سواء، حيث دأبت جهود السلطة إلى صبغ “الهوية الوطنية” بلون الحزب الواحد، دونما إعطاء الفرصة للمكونات المجتمعية المتغايرة بأن تتفق أو تختلف حتى فيما بينها لكي تعطي نتاجاً ما. “التجانس” المفروض كان قسرياً، خاضعاً للخوف من التغييب من قبل السلطة في حال الحياد عمّا ارتآه حكم الحزب الواحد صحيحاً، حتّى أصبح الخوف ربّما هو العنصر المشترك الأوحد على امتداد الجغرافية السورية؛ جمعنا لكنّه فشل في أن يوّحدنا. كما أن هذا التجانس المفروض عمد على إقصاء “قانوني” لمكوّناتٍ مجتمعية من القدرة على التأثير في الحياة السياسية – حال وجدت – كما أنكر مكنونات هويّات ثقافية عديدة، كما هو الحال فيما يتعلق بالمكوّن الكردي أو الفلسطيني-السوري على سبيل المثال لا الحصر ودون الخوض في تفاصيل إضافية، لأن هذا الموضوع يتطلب نصّاً مفصّلا آخر.

    تتحدث البروفيسورة في نهاية المحاضرة عن أساليب العلاج للاضطرابات التفارقية، وتركّز على أهمية السّرد لدوره في ترميم القطع وإضفاء شعور باستمرارية الهوية، بتناسق وتكامل مكوناتها التي أوصلت إلى الآن. في التجربة السوريّة يبقى الأمر مشابهاً، بل وملحّاً أكثر من أي وقت مضى منذ اللجوء، منذ الثورة، منذ استلام الأسد الأب، منذ خروج المستعمر الفرنسي؛ المجتمع السوري بحاجة أن يتكلم، أن يدخل في حوارٍ صبورٍ ليعاين هول المصيبة وليعيد ترميم ما خُرّب دونما عناية منذ 2011 على أقلِّ تقدير، بل وليكوّن للمرّة الأولى ربما نواة هويّة جامعة منصفة لجميع مكوّناتها. الأمر ليس “بسهولة” سردٍ زمنيٍّ للماضي، بل هو أقرب لحياكة نسيجٍ من التجارب، والمشاعر، والاكتشافات والنتائج المستقاة من هذا الألم كله كي نصل إلى سياقٍ ما في ظل هذه الفوضى، كل نعرف ما فقدنا وما اكتسبنا، وكي نكرّم ذكرى من فقدنا؛ من قدّموا أنفسهم/ن كي نصل إلى هذا اللحظة.

    في حالات الانفصال، تحاول المعالجة النفسية تكرار اسم الشخص بهدوء، كي يعود إلى اللحظة الآنية..

    لنكرر أسماءنا بهدوء

    لنكرر أسماء من رحلوا بهدوء

    لنكرر وجودنا بهدوء

    لنصل معاً

    بهدوء.


    [1] درويش

    صورة الغلاف © أوس حويجة، ٢٢٠٢