Category: مدونات

  • ! لغز السلك الكهربائي السحري

    ! لغز السلك الكهربائي السحري

    “- يا بيك، لو بدل الإذاعة عمرتولنا سد بـ وقف بـ وش الطوفان، مو كان أفيد للضيعة؟..
    — له يا أبو شحادة، على حساب إنت بتخاف الله وبتصلي لك يا إبني… هذا الطوفان جاي من عند الله.. حطلّك سد بوشو
     لك مو حرام؟!!!!… أنا ما بعملا…! يجي بيك غيري يعملا… في آخرة شو هالحكي…! استغفر ربّك استغفر ربّك!!!!”

    حوار من مسرحية “غربة” ل محمد الماغوط، اعتمده صانعا أفلام وثائقية كمدخل درامي ومفاهيمي للشريط التعريفي القصير الذي عرضاه للتعريف بفلمهما ضمن تدريب في ورشة عمل لصناعة الأفلام الوثائقية ب دمشق 3202. كان الفيلم يبحث في الاغتراب المعرفي الهوياتي الوطني بين مفاهيم الطفولة قبل وبعد بدء الحرب/الثورة/الأزمة في 1102.

    كان رد فعل المشاركين _ بين الـ 52 والـ53 عاما_ أن الطرح البصري والمشهدي (خشبي وقديم وميّت…. وأن هذا “الخطاب” الذي تستدعيانه إنما هو تموّت فكري وهو مسبب للأشكال الدكتاتورية في العالم بأسره. مات زمن الأيديولوجيات).

    قبل هذه الحادثة بـ 93 عاماً ولدت وعشت في منزل به مؤلفات وصور “لينين” و”ستالين” و”ماركس” و”إنغيلز” و”عبد الله أوجلان” و”مهدي عامل” و”جيفارا” و”كاسترو” و”هو شي منه”… عشت في المنزل مع إخوتي وأبي القيادي في الحزب الشيوعي (بكداش) في الستينات، والدي نفسه؛ هو منعنا من الانتساب لأي حزب شيوعي، ودفعنا _ولو بالضغط_ لقبول الانتساب لـ البعث تجنباً للمشاكل، وهو الذي عمل 44 سنة بعيدا عن عائلته في السعودية معقل التطرف والتدين والرجعية حسب وصفه، وهو الذي ردد دائماً: “كنا يساريين شيوعيين وقياديين وناضلنا، وخلصت، هلق انتو لازم تعيشو…” ليخبرنا أن الذي عاشه كان عكس الحياة.

    وللمفارقة أن أمّي، المصنفة ضمن العقول البسيطة وفق تعابير مثقفي المرحلة تلك، أمي هي التي أتاحت لي الفرصة الكبرى للتعلم والتعرف على المناهج الفكرية المختلفة وفق حكمتها الجدلية: ” وحدو الميّت ما بهمّو يتعلم او يتعرف ع شي جديد”، ودخلت حلقات الحزبين الشيوعيين المنضويان تحت السلطة الرسمية، وحزب العمل الشيوعي بروح رفاقه المنكسرة. غنيّت أغاني سميح شقير ومارسيل خليفة في سهرات اليساريين الثملين بنشوة الحزن والانكسار العربي/الكردي/الشرق أوسطي والحنين لانتصارات عاشها الاتحاد السوفييتي وليس هم، سمعوا عنها ولم يقرؤوها حتى.

    سردوا ذات الخطاب الصادر في الجريدتين الرسميتين، ومرة قال أحد أبناء القياديين: “خلافنا مع حزب الله أيديولوجياً، وحتى لو نلتقي معه كفاحياً لكننا لا نتراجع أيديولوجياً قيد أنملة…” ولم يشرح ما عناه فلم أفهم، وحرجاً لم أسال، فاضطررت للغوص في معنى أيديولوجيا والأدلجة، في كتب القومية في المدرسة وفي المراجع المتاحة في مكتبة المركز الثقافي، ولم أفهم.

    عدت وسألتهم، ولم أفهم، سألت أبي، ولم أفهم… لم أفهم حقاً كيف اتفقواً جميعاً على ذات الصياغة وذات الفهم والمصطلحات وذات الخطاب، حركات اليدين وخيانة اليسار لليسار، الصراع بين مؤيدي تروتسكي وجماعة أبو عمّار، لماذا تحالف رياض مع الإخوان، طوفان الرفاق الأكراد الذين حضروا عيد ميلاد الحزب في السويداء في الستينات، وذات المقتطفات من ذات المؤتمرات، ذات الطيبة والهزيمة والانكسار.. وذكريات الاتحاد السوفييتي ذاتها.

    اتفقوا على كل ذلك ولم يتوصلوا لإفهام مراهق في الـ 51 من عمره ما مشكلة الأيديولوجيا واليسار والشيوعية إذا كان هذا الفكر الرائع بهذه الرؤية العظيمة، ما مشكلتهم، لماذا لا نعيش في ذاك النعيم، من وكيف ولماذا سُرق منّا الاتحاد السوفييتي الذي لا يمكننا التعرف إليه اليوم…؟

    لم أفهم لماذا كنّا، نحن الشباب اليساري، كلنا حصراً أبناء يساريين أشدّاء سابقين، متعالين على غيرنا من “الجهلة” الغافلين غير الآبهين بنا، وكأننا ورثة مملكة بين الكواكب خسرها آباءنا وطُردنا منها، فنستعيد إرثها بحنين وحزن ومظلومية…

    كان أعتى اليساريين _الشيوعيين والناصريين والقوميين والفوضويين_ يبنون خطابهن على لعنة أمريكا والرأسمالية، والترحم على الأمل في الاتحاد السوفييتي… وفقط…. فقط…. أي سؤال بعد ذلك كان مبرراً للتعالي والتسلط في المصطلحات، وأي أفق بعد ذلك كان مغلقاً وبانتظار السوفييت أن يعودوا ويجترحوا المعجزة مرة أخرى…

    هنالك شيء ما مفقود في معلوماتنا! هذا كان جوابي عن تفجيرات 11 أيلول بين رفاقي المراهقين الذين يتناقشون معي بصفة المثقف اليساري. هناك شيء مفقود في معرفتنا، حتماً، لهذا لم نفهم لماذا غزى الجيش الأمريكي أفغانستان، ولم أفهم أنا لماذا كنت أدمع في الساعة 3 صباح 91 آذار يوم اجتياح العراق وانا أتحضر لامتحان الثانوية العامة. المفقود في معرفتنا كان ما بعد تلك الـ (فقط)، لأنها تعني أن كل الفعل توقف هنا، بيننا، نحن، من نفهم المصطلحات بيننا، وفقط، لا فعل خارج سهرات السمر، ولا خارج مكاتب القيادة، ولا خارج دوائر الرفاق المحطمين بعد اعتقال وتعذيب وفقدان الأحباء والرفاق… لا يوجد يسار خارجنا…
    واليسار حصد اسمه في التاريخ عندما وقف من يدافع عن مصالح الجماهير على يسار الخصوم، لكن أنا كنت بين جماهير تكره اليسار، لأنها لا تعرفه كما أعرفه أنا ربما؟… كيف إذا أنا يساري، والجماهير تكره اليسار الذي من المفترض أن يدافع عن مصالحها؟.. إذاُ أنا لست بين الجماهير، ولا أحد ولا رفيق من اليسار الطرب حزناً كان بين الجماهير!!!…
    والجماهير… الجماهير في التصاريح الفوقية التي تناسخها عتاة اليسار إياهم، بالوصف العاجز المحبط المهزوم للجماهير دوماَ.. وإذا سألت : إذاً كيف لنا أن نصنع جماهير حرّة واعية غير محبطة ولا مهزومة؟ كان الجواب لطمية يسارية على أنغام نشيد كاتيوشا السوفييتي..!

    معرفة 1:

    ” لنأخذ سلكاً كهربائياً، يخبرنا العلم أن فيه الكترونات تمتلك طاقة وتتحرك عشوائياً، فإذا وضعنا لمبة على هذا السلك المنعزل الوحيد، لن تضيء، رغم وجود الالكترون بطاقته المطلوبة والناقل، ووضوح الهدف، النور.. رغم ذلك لن تضيء اللبمة، لن تضيء حتى نضع خلية ثنائية القطب، هي البطارية، ينتج النور… علمياً بسبب التيار الكهربائي الناتج عن الاستقطاب الذي طبقته البطارية على الالكترونات، الاستقطاب الذي (نظّم ووجه حركة الالكترونات)… الحزب السياسي أو التنظيم السياسي هو هذه البطارية التي تنظم وتوجه حركة الطبقة/الجماهير/المجتمعات التي تنتمي لها…”

    هذا الفهم العميق والمباشر، بهذه الدرجة من البساطة قد حلّ معضلة العلاقة مع الجماهير… العمل التنظيمي، اليومي المضني، هو الأداة الأساسية لـ نوجّه طاقتنا كجماهير.. بهذه الواقعية والبساطة..

    فان أكون يسارياً أدافع عن مصالح الجماهير يعني أني أولاً من هذه الجماهير أسعى لتحركيها، يعني ان أعمل يومياً لقضيتنا، يعني أني مواجه ومشتبك، يعني أننا في عملية تنظيم وتوجيه مستمرة لقوانا وطاقتنا، ولأنه لا يكفي أن تؤمن “البطارية” بقدرة الالكترون على الحركة، بل تقوم بفرزه وتوجيهه، كذا لا يكفي أن يؤمن التنظيم ب طاقتنا ك جماهير وفقط، بل المطلوب ممارسة فعل نقدي جدلي، واقعي وثوري، يعطي الجماهير سلاحها في القدرة على التحليل والفهم.. كي ندرك خطورة أكبر عملية احتيال وأهمية أكبر حالة استعصاء في التاريخ..

    معرفة 2:

    منذ نهاية السبعينيات نشأ تناقض مدمر بين إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي الذي بلغ 601 ترليون دولار في 3202 ، وبين إجمالي عدد ورق الدولار المطبوع في العالم والذي يزيد عن 006 ترليون دولار..

    أي أن 005 ترليون دولار مطبوعة ولا يحتاجها أحد على كوكب الأرض..

    أي أن الوزن الحقيقي للولايات المتحدة في القرار الدولي هو خمس ما تحوزه عليه اليوم… وبالتالي فالصراع متمحور على هذه الجدلية، وبالتالي يمكن فهم وتحليل حركات الخصم، والسعي لتوقعها وحتى التحكم بنتائجها، وحينها سنحقق التغيير الذي نسعى له يا “جماهير قلبي”… وبالتالي أفهم الآن الضرورة لدى خصمي، ك جماهير..
    وأفهم لماذا الولايات المتحدة والدول الغربية ذهبت لحرب أفغانستان والعراق.. ويمكنني أن أتنبأ حدوث أزمة الـ 8002 .. ويمكنني توقع تراجع الأمريكي في المنطقة وقياسه واقعياً..
    يمكنني البناء على فهم للتوازن الدولي أنه لم يعد يخدم الخصم الامبريالي سوى تحقيق أعلى مستوى فوضى وتفجير في مناطق سيطرتها هنا ضمن عملية التراجع..
    بالتالي، يمكنني، بلا أي حزن يساري، ولا انكسار، ولا لطميات.. يمكنني القول أن الأفق ينفتح أمام الشعوب وينغلق أمام أعدائها التاريخيين، ويمكنني أن أكون يساراً يقف في جهة مصالح الجماهير، أقوم بدوري في الفهم والفرز وتحقيق التحكم، لأنني أملك منصة معرفية.

    معرفة 3 : الفكر الثوري لا يمكن أن ينفصل عن سلوك ثوري…

    كانوا عاجزين علمياً، بلا منصة معرفية حقيقية…

    العجز العلمي حرم المحاصرين في “يسار” عربي أو شرقي، حرمهم القدرة على تحقيق معادلة تفسير – تحكّم – تغيير، المعادلة الحتمية في التعامل مع أتفه القضايا وأكبرها، العجز عن التفسير الثوري الديالكتيكي المرتبط حتماً بالتغيير. واليوم، كما في عام 2005، أن تكون يسارياً يعني أن تعتنق سلوكاً ثورياً، القضايا ليست ترفاً، والعمل التنظيمي يتطلب القدرةً على الإجابة عن أسئلة أصحاب المصلحة، ويتطلب حتماً القدرة على التعلم، والتعلم حتماً يتطلب قراءة وفهم التاريخ، هكذا تبنى منصة معرفة، هكذا ينتصر من ينتصر معرفياً.

    اليسار هي جهة الشعوب، والشعوب هي صاحبة القوة المطلقة والشعوب حتماً لا تعني أن تبقى دوماً مظلومةً…  وأن تكون يسارياً يعني أن تعي قوة الشعوب وتنتصر بها ولها، أن تنتصر بدل الهزيمة، أن تكون مؤمن علمياً بحركة التاريخ وقوانين الطبيعة وحتمية التطوّر والتغيير، وأن تكون الأشد عاطفية في الدفاع ضد كل الظلم، لا أن تجترّ لطمية المهزوم البائس.. واليسار هي جهة الشعوب لا تعني أن تكون خاسراً أبداً، وإنما يعني أنك قادر على قلب المعادلة والانتصار.. اليسار رغبة بالحياة لأننا نملك العقل والقلب لتغيير هذا العالم… ولأن “وحده الميت ما بيتعلم شي جديد”!.

    في سنة 3202 ، في ورشة عمل للأفلام الوثائقية في دمشق، مجموعة أصدقائي السينمائيين الشباب تعاطوا معي أنا وشريكي بحالة شفقة لأننا لا زلنا نؤمن بالتغيير، واتفقوا جميعاُ على أن كل مقولات النضال لأجل العدالة خشبية، واليسار وهم والأيديولوجيا موت، حينها لم يكن أحد منهم يصدقني في تحليلي ل حتمية انهيار الشكل الحالي للنظام السياسي في سورية “نظام الأسد”، كانوا جميعاً في قعر اليأس، وانتشوا جميعاً بعد 8 كانون الأول 4202، ثم عادوا لقعر اليأس بعد 3 أشهر، ومجدداً عادوا للبحث في سبل الاغتراب أكثر وأكثر..

    في 5002، كما في 1102، كما في 3202، وكما في 5202/3/8 خلال المجازر في جبال الساحل السورية، ارتدت الفئة المثقفة، النخبة اليسارية الكئيبة المنعزلة ذاتها، مجدداً إلى النكوص والخوف وإعلان ان هذه البلاد لا يمكن تغييرها…

    في هذا الوقت، كان اليسار، الجماهير، الشعوب، في كل مرة، تربّي تجربتها الخاصة، تتعلم، تدفع الثمن من لحمها، وتمضي للأمام… والضرورة تفرض نفسها، ومن يملك منصة معرفية يدرك الضرورة لكل ظاهرة، ويدرك أهمية تنظيم الشعوب لتسريع عملية التغيير..

    أعي الآن ما كان ينقص، هو أن يمسك أحدهم بقوانين الطبيعة، وإن امتلكنا الفهم ك (فهمانين) ما نحن فاعلين ب هذه المعرفة؟… ان تكون المعرفة أداة تغيير فوق التنظير، أن يكون اليساري خارج الحلقات الآمنة، ألا يتقوقع في برج التنظير الفارغ، وألا يعبدنا نحن الجماهير بقوتنا المهولة وانحرافاتنا الفادحة.. أن اليسار هو التنظيم في قوة الشعوب.. قوة الشعوب هي الطوفان الذي لا يمكن رده ولا منعه، وهذا من القوانين الموضوعية الحتمية للطبيعة!

  • اضطرابات تفارقيّة في مشهد الهوية

    اضطرابات تفارقيّة في مشهد الهوية

    يحاول هذا النص أن يعاين اللجوء السوري من منظور نفسي؛ بشكل أدق، أن ينظر في تشتت الهوية الجمعية الناتج عن التبعثر السوري في العالم ويناقش تقاطعات نتائج هذا التشتت والاضطرابات التفارقية أو الانفصالية (sredosiD evitaicossiD)

    يتحدّث النص عن رحلة الهوية الجامعة ويفترضها شخصاً أو كياناً (لأني أريد أن أتفادى الحديث بصيغة المفرد الغائب الذكر كما هو شائع.)

    سيتخلل هذا النص اقتطاعات. لن تمثّل هذه الاقتطاعات استمرارية موضوعيّةً للنص (وهو المطلوب)، بل ستؤدي دوراً وظيفياً يتماشى والموضوع الأساسي (الاضطرابات التفارقية) أو ما يسمى الاقتطاع.

    أذكر أنّ المحاضرة يومها كانت عن الاضطرابات التفارقية. كما أذكر، لتناقض الأمر، أن تركيزي كان حاضراً دونما انقطاع على غير المعتاد، ولأن هذا الحدث العابر اليومي شاء أن يبقى عالقاً في الذاكرة أو أن يتحول لنصّ ضمن دعوة استكتاب حول “السرديات السّورية”، صادف أن يكون تاريخ هذا اليوم هو ذاته تاريخ خروجي وعائلتي من سوريا قبل عشر سنوات. عقدٌ مرّ على ذكرى الاقتطاع الأول في حياتي، كما كثر غيري لم تسنح لهم الفرصة بأن يكملوا سيرورتهم دونما خلل.

    يتخلل السرديّة السورية حدثٌ لمّا تتبلور نتائجه بعد على ماهية ما يدعى بـ “الهوية السوريّة الجامعة”، ألا وهو المغادرة الجمعية لسوريا، حيث أننا ما زلنا – على تنوّعنا – نعاين عن بعدٍ أبعاد هذا الحدثِ، لأننا، ولحتمية التجرّبة، نجسّد النتائج وننتظر أن نعيش استقراراً ولو كان بسيطاً على الصعيد الخارجي والداخلي، كي نقدر أن نسبر أغوار ما حدث.

    تقول البروفيسورة إن الاضطرابات أو الأعراض التفارقية ترتبط بشكل وثيقٍ بحدثٍ تراوماتي دون القدرة على مواجهته أو استيعابه، ليكون الخروج من الموقف، ولو عقليّاً، الوسيلة الأفضل لحماية الذات من أثر هذا الحدث. وفي ظل حكمٍ دكتاتوري في سوريا امتدّ قرابة الخمسين عاماً تكثّفت فيه سياسات القمع والصّدمات النفسية الناتجة عن العنف، الفقد، أو حالة الذعر المستمرة، لم تكن حركة الخروج مجرّد حدثٍ عارض، بل جزء من كلٍّ سياسي، اقتصاديٍّ ومعيشي لمن لم ينسجموا مع الصيغة المعطاة مسبقاً لكيفية التصرف تحت حكم الأسد. الأمر بسيطٌ، اضطرت هوية المكانِ الجامعة في لحظة ما لأن تغادر، لأن تتبعثر في مختلف أماكن العالم دونما تحضير؛ حدث الأمر فجأة، على عجلٍ وبشكل حتميّ تاركاً وراءه مئات الآلاف من الأفراد (الهويّات الفرديّة) تتخبّط في احتمالات الغد، وتمثّل في ذات الوقت الاقتطاع الذي حصل، تجسّد التغييرات الناتجة عنه.

    اقتطاع أول:

    في ساحة جامعتي المستقبليّة

    الفتاة الشقراء التي تقفز على حبل،

    الشاب الذي ينشز بصوته صمتي،

    شجرةٌ اتكأت عليها،

    حبات المطر الخفيفة،

    الشمس الخجولة،

    غياب صوت الحرب،

    تفاصيلٌ مثقلةُ بالغياب، والبعد. تفاصيل غريبة

    وأنا – في الحنين –

    كنت أحاول ثني الهواء لأختفي. 

    وجدت هذا النص مؤخراً في إحدى دفاتري، وانتابني شعورٌ بالوضوح حينما قرأته، كأنني أقرأ رسالةً عابرةً للزمن منّي إليّ. ثني الهواء للاختفاء، غرابة التفاصيل المحيطة، والميل إلى تشويهها والانسلاخ عنها، ما هي إلا دلالات الانفصال الذي حدث، خصوصاً وأن عمري حينها كان شهرين فقط بعيد المغادرة. 

    تشمل الاضطرابات التفارقية أعراضاً كانفصال عن الذات (noitazilanosrepeD) أو انفصال عن المحيط حيث يعاش كغير واقعي أو مفهوم (noitazilaereD) . أعراض يمكن استشفافها في كثير من التعابير المستخدمة من شفاه سورية في التعبير عن واقعها اليومي، كالشعور بالانفصال عن الجذر، أو الشعور بفقدان جزءٍ من الذات وسط تفاصيل مكانية تبدو بعيدةً رغم قربها المادي وكأنما الفرد يقطن عالماً مزدوجاً: حاضرٌ غير مألوف لمّا يغدو أليفاً لطيفاً بعد، وماض لمّا “يكتمل” بعد؛ لا يأنف أن يكون قريباً رغم بعده. في الترحال ما بين التفاصيل المألوفة والمفروضة تغدو هذه الهوية الجمعية عرضةً للتعب، عرضةً للتنافر في مكوناتها، لا كلل في محاولاتها اختبار شعور الاستمرارية الذي يبدو دوماً أقرب مما هو عليه في الواقع.

    الذاكرة السورية تضمر يوماً بعد يوم، تغدو أبعد وأفقر تفاصيلاً، بالرغم من محاولاتها الدؤوبة بأن تحضر من خلال استعمال أصناف بهارات، زيارة موسيقى قديمة، زراعة نباتاتٍ محددة على “البلكون” أو إضفاء “طابعٍ سوري” على مكان السكن. تبقى هذه المحاولات هزيلة، غير مجدية في الإقناع بأن ما نعيشه اليوم هو امتداد بما عشناه قبل الخروج. على سبيل المثال، في الأشهر الثلاثة الأخيرة وحدها سمعت وقرأت ممن ذهبوا بزيارة قصيرة إلى سوريا بعيد سقوط نظام الأسد بأن الشاورما هناك لها طعم مختلف تماماً، وهذا طبيعي بكل تأكيد، أقصد أنّ الذاكرة الأبعد زمنياً ستصبح على كل حالٍ أضعف في لحظة ما، لكنّ الذاكرة حين يتخللها حدث يعطّل استمراريتها ويقسمها نوعياً إلى “ما قبل” و”ما بعد” الحدث، تضطرب، لا إرادياً، في محاولاتها للوصول لما هو هناك على الضفة الأخرى من هذا الحدث، من المغادرة، كما هو الحال في الاضطرابات التفارقية حيث تبدو الأحداث وكأنما تنتمي إلى “زمنٍ ضائع لا يعود”[1]، إلى عالمٍ مختلف كنّا فيه هويّات شديدة البعد عن الآن، تظهر في ومضات وصور مشوشة غير قادرةٍ على أن توحي، أو تمنح شعوراً بالاستمرارية. الأمر لا يمثّل نسياناً طبيعياً، ويغدو مؤلماً، صارخاً وحدثاً جللاً حينما نعود إلى المكان، إلى سوريا، ولا نجد أنفسنا.. لأننا لم نستمر. نشعر بالاغتراب، نحن من نهيم على وجهنا جماعةً في بحثنا المستمر عن ذواتنا المشتركة.

    كذا هو الأمر أيضاً في الاضطرابات التفارقيّة؛ يصبح الجسد الذاتي غريباً. يحتاج وقتاً وجهداً لكي يبقى أو يعود مألوفاً وقد لا يعود، كما تنظر الهوية السورية المغادرة إلى ذاتها سابقاً كحدثٍ ضبابي لا متجانس مع سيرورة الواقع الحالي، كأمرٍ حدثَ في مكان ما لم أعد أشبهه أو يشبهني، لكنّه يرافقني في صفاتٍ كاسمي مثلاً أو لغتي الداخلية. اغترابٌ آخر. اغترابٌ داخلي حين تعود الهوية السورية إلى الجغرافية السوريّة لتجد أن العملة أصبحت غير مفهومة، وأن الطرقات تغيّرت والحيّ التي ترعرعت فيه قد اكتسب صفاتٍ جديدة خاليةٍ من أثرِها. تدرك الهوية حينها أن الانفصال لا يتعلق فقط بمفهوم الوطن كمساحة ماديّة، بل يمتد إلى الشعور بفقدان “الجسد السوري” ما قبل الاقتطاع، ما قبل المغادرة؛ بمعنى أن الذاكرة الجسدية – الإحساس بالشوارع، الأصوات، الروائح – تستدعي الاستمرارية وتبهت مع الزمن دونها. تدرك الهوية حينها أن شعور الانتماء يتمنى أحيانا وبحزن عميق لو أنّ شيئاً لم يتغير، لو أنّه قد عاد إلى ما تركه ليجده على حاله.

    اقتطاع: كتبت هذا النص القريب جداً من قلبي حينما عدت إلى انتمائي في لحظة ما ولم أجده:  

    حاذري “المضي”، الطريق شديد الانتحار

    الانحدار

    الانحدار

    حاذري “الحياة”، الطريق شديد الانحدار

    الانتحار

    الانتحار

    حاذري المضي، الطريق شديد الانحدار

    الحياة!

    الانتحار؟

    حاذري الحياة، الطريق شديد الانتحار.

    الطريق!؟

    تصل البروفيسورة في شرحها عن الاضطرابات التفارقية إلى تلك حيث يعيش الشخص بعدة هويّات تختلف فيما بينها بالتواصل مع المحيط، أي في طريقة التفكير، في الوجدان، في اللغة وأسلوبها، في الذاكرة المرافقة، في التصرفات والانفعالات، ليجسّد هذا الانتقال بين الهويّات المختلفة آليّة عكسيّة دفاعية للبقاء، لمواجهة الواقع، للتكيّف مع سياقاتٍ مختلفة قد تتناقض فيما بينها. في التجربة السوريّة نجد أن القفز ما بين الهويَات وفقاً لمعطيات المحيط يكاد يكون تلقائياً من المنظور الفردي لضرورته في الانسجام مع التفاصيل، لكنّه يجسّد في ذات الوقت الانقطاع الذي نصادفه ونتكلّم عنه دوماً في الاضطرابات التفارقية. أيضاً من منظورٍ خارجي، من منظور الآخر، الهوية السورية التي لم تغادر تصنّف تلك التي غادرت بأنها بعيدة نوعيّاً وتمثّل اختلافاً. كما هو الحال بالنسبة للهويات السورية المغادرة، فالهوية السوريّة – الألمانية تختلف عن السورية – التركية، أو الهولندية، أو الأردنية والبرازيلية في حيواتها اليومية، لغاتها، مشاعرها ومختلف تفاصيلها حدّ الانقطاع.

    اقتطاع بعيد هروب الأسد:

    صديق: يا ريت فينا نبدّل الأماكن، اللي ضلّو جوا يطلعو عشر سنين لبرا، يعيشو اللي عشناه، واللي طلعو لبرا يرجعو لجوا سوريا عشر سنين، يتحمّلو اللي تحمّلوه اللي ضلو. كل ما فكر باللي بقيو بشعر بخجل واحترام هائل بسبب اللي اضطرو يتحملّوه. لا كهربا، لا مي، ولا أي مقومات للحياة. طبعاً ما عم قول انو هون بالخارج كنّا عم نعيش نزهة. بس اللي عاش غير اللي سمع.

    صديقة: ما بدي حدا يحكي عني، انا ضلّيت بالبلد وعشت اللي ما عاشوه كتار هلق يلي عم يحاولو يحكو عني وعن تجربتي.. تجربتنا كلنا يلي بقينا. من بعد ما صار عندن المصادر والوسائل انهم يطورو من حالهم برا جايين بعد سقوط النظام ياخد مساحات أصوات يلي ضلو. مش عدل هالشي، ولا بدي حدا يقلي عن معاناة البيروقراطية والعنصرية والعيشة بالمجتمع الأبيض لما فيك تشحن موبايلك وتدفي حالك ايمتا ما بدك. بكره اللي بيفرضو عليي بحديثن صيغة ما أنا عشت شي مختلف عنها. لازم نعترف بهاد الاختلاف ونشوفو ونصدق انو ما عنا نفس التجربة.

    سيحتاج الأمر الكثير من الصبر والجهد والحوار المستمر لكي تتكوّن صورة أوضح لماهيّة ما يدعى بهوية المكان الجامعة، وما يزيد الأمر صعوبةً هو غياب المساحة للتفكّر في ممارسة التنوع الإثني، الطائفي أو العرقي للمجتمع السوري في حقبة حكم الأسد الأب والابن على حدّ سواء، حيث دأبت جهود السلطة إلى صبغ “الهوية الوطنية” بلون الحزب الواحد، دونما إعطاء الفرصة للمكونات المجتمعية المتغايرة بأن تتفق أو تختلف حتى فيما بينها لكي تعطي نتاجاً ما. “التجانس” المفروض كان قسرياً، خاضعاً للخوف من التغييب من قبل السلطة في حال الحياد عمّا ارتآه حكم الحزب الواحد صحيحاً، حتّى أصبح الخوف ربّما هو العنصر المشترك الأوحد على امتداد الجغرافية السورية؛ جمعنا لكنّه فشل في أن يوّحدنا. كما أن هذا التجانس المفروض عمد على إقصاء “قانوني” لمكوّناتٍ مجتمعية من القدرة على التأثير في الحياة السياسية – حال وجدت – كما أنكر مكنونات هويّات ثقافية عديدة، كما هو الحال فيما يتعلق بالمكوّن الكردي أو الفلسطيني-السوري على سبيل المثال لا الحصر ودون الخوض في تفاصيل إضافية، لأن هذا الموضوع يتطلب نصّاً مفصّلا آخر.

    تتحدث البروفيسورة في نهاية المحاضرة عن أساليب العلاج للاضطرابات التفارقية، وتركّز على أهمية السّرد لدوره في ترميم القطع وإضفاء شعور باستمرارية الهوية، بتناسق وتكامل مكوناتها التي أوصلت إلى الآن. في التجربة السوريّة يبقى الأمر مشابهاً، بل وملحّاً أكثر من أي وقت مضى منذ اللجوء، منذ الثورة، منذ استلام الأسد الأب، منذ خروج المستعمر الفرنسي؛ المجتمع السوري بحاجة أن يتكلم، أن يدخل في حوارٍ صبورٍ ليعاين هول المصيبة وليعيد ترميم ما خُرّب دونما عناية منذ 2011 على أقلِّ تقدير، بل وليكوّن للمرّة الأولى ربما نواة هويّة جامعة منصفة لجميع مكوّناتها. الأمر ليس “بسهولة” سردٍ زمنيٍّ للماضي، بل هو أقرب لحياكة نسيجٍ من التجارب، والمشاعر، والاكتشافات والنتائج المستقاة من هذا الألم كله كي نصل إلى سياقٍ ما في ظل هذه الفوضى، كل نعرف ما فقدنا وما اكتسبنا، وكي نكرّم ذكرى من فقدنا؛ من قدّموا أنفسهم/ن كي نصل إلى هذا اللحظة.

    في حالات الانفصال، تحاول المعالجة النفسية تكرار اسم الشخص بهدوء، كي يعود إلى اللحظة الآنية..

    لنكرر أسماءنا بهدوء

    لنكرر أسماء من رحلوا بهدوء

    لنكرر وجودنا بهدوء

    لنصل معاً

    بهدوء.


    [1] درويش

    صورة الغلاف © أوس حويجة، ٢٢٠٢

  • السردية كمطرقة

    السردية كمطرقة

    افتتاح سلسلة مدونات ’السرديات السورية

    كنا هناك أو لم نكن، في لحظةٍ لم نخطّط لها، حين اهتزّ الهواء وارتجّت الصورة، وسقط النظام.
    سقط، لا كما تسقط تماثيل الطغاة أمام عدسات العالم فقط، بل كما يسقط خوف قديم فجأة من بين ضلوعك: بلا احتفال، بلا عزف، بلا عزاء. فقط صمت كثيف، وتيه.

    ثم قيل لنا إننا نعيش في سوريا الجديدة.
      سوريا الجديدة! قالتها الشاشات، كررتها صفحات الفيسبوك،
      لكننا لم نكن نعرف بعد: أي سوريا هذه؟
     سوريا المكان؟ سوريا النظام؟ سوريا اللغة؟
      أم سوريا الفكرة؟!

    ما الذي يحدث عندما لا تعود السردية الكبرى قادرة على التفسير؟
    عندما تنهار الجملة الرسمية، وتفرغ الكلمات من معناها، وتبدو “سوريا الجديدة” وكأنها عبارة تُقال أكثر مما تُفهم؟
    في لحظة ما، سقط النظام. لم يكن سقوطه ضجيجًا، بل فراغًا. ليس مشهدًا يُوثَّق، بل شعورًا يُعاش.
    وفي هذا الفراغ، ظهرت فجوة: من يروي؟ وماذا يُروى؟ ولمن؟

    ليس مشروع “السرديات السورية” إجابة جاهزة عن هذه الأسئلة، بل هو عودة لطرحها، لا من فوق المنابر، بل من داخل التجربة.
    نكتب لا لأننا نملك أجوبة نهائية، بل لأن الصمت الذي فُرض علينا طويل، ولأن الحكايات التي لم تُروَ كثيرة.
    لا نكتب “كي نمنح صوتًا”، بل لأن الصوت كان موجودًا دائمًا، فقط لم يُسمح له أن يُسمع.
    وهذه ليست دعوة للكتابة بوصفها أدبًا فقط، بل بوصفها فعلًا حيًا، مقاومًا، فوضويًا أحيانًا، وعاطفيًا دائمًا.

    ما نقدّمه هنا، هو مجموعة من التدوينات، مكتوبة على حافة المعنى، وعلى تماس مع الذاكرة، بلغة تحاول أن تلمس لا أن تشرح.
    كل نص هو محاولة لحفر سردية لا تبحث عن مركز، ولا تخشى أن تتفرّق.
    وإن كان الخطاب الرسمي قد بُني على التكرار، فإن ما نريده هنا هو التعدد، لا بوصفه تنوعًا شكليًا، بل بوصفه تفكيكًا لما اعتُبر “الحقيقة الوحيدة”.

    في “خزّان”، نفتح سؤال الكتابة من جديد، بعيدًا عن الأكاديمية المغلقة أو اللغة النخبوية، وبعيدًا عن التبسيط الذي يختزل التجربة السورية في عناوين، أو صور، أو بطولات مصنّعة.
    نكتب من الداخل: من داخل الألم، من داخل الارتباك، من داخل اللغة التي لا تكفي، لكننا نُصرّ على استخدامها، حتى لو كانت مكسورة.

    هذه السلسلة لا تبدأ من نظرية، ولا تنتهي بموقف.
    هي مساحة. مساحة للكتابة، للسؤال، للتجريب.
    لكتابات فردية لا تبحث عن تمثيل أحد، ولا تدّعي أنها “الصوت الحقيقي”، بل تُصرّ على أن تُكتب كما هي: مربكة، ناقصة، وصادقة.

    مرحبًا بكم في “السرديات السورية” – مشروع مفتوح، لا يدّعي الاكتمال، بل يحتفي بالتمزق، بالتعدد، وبالكتابة كأداة لا لترتيب الواقع، بل لتفجيره.

    مرحبًا بكم في سردياتنا.

    التي لا تخشى أن ترتبك،
      أن تصرخ،
      أن تتلعثم،
      أن تلعن،
      أن تحلم،
      وأن تُخطئ.