Category: مدونات

  • كإشارات مرور تنبض باستمرار

    كإشارات مرور تنبض باستمرار

    دور السرديات الشخصية في صياغة المكان

    منذ سقوط نظام الأسد في سوريا، سقطت معه “سوريا الأسد” ولاح في لغتنا اليومية مفهوم وليد عن واقع مختلف: “سوريا الجديدة”. المفهوم الذي اعتمدته جميع قنوات الإعلام التلفزية وقنوات السوشال ميديا، ليصبح مفهوماً واضحاً (بمعنى أنها سوريا ما بعد الأسد) وغير واضح (فما معنى أن تكون سوريا جديدة؟). وقد يكون من غير البديهي (أو غير المفيد للبعض) أن نسأل عن معنى سوريا الجديدة، وخصوصاً بعد أن كثرت فيديوهات السوشال الميديا التي تسأل المارّة في سوريا: “ماذا تغير عليكم بعد سقوط الأسد؟” وتطابقت تقريباً الإجابات ” كل شيء تغير، كل شي أحلى”. ولكن هل أصبح الناس في سوريا أخرى؟ وعن أي سوريا نتحدث؟ المكان؟ النظام الحاكم؟ الفكرة؟

    من جهة أخرى، يكثر الحديث الإخباري والاجتماعي عن “الساحل” السوري، وفق مستويات خطاب مختلفة، فحيناً يتحول الساحل إلى طائفة دينية، وحيناً يتحول كدلالة لغوية بديلة لمفهوم فلول النظام البائد المجرم، وحيناً يصبح قاعدة عسكرية لتدخل خارجي، وحيناً مدخلاً إلى استقرار سوريا وسلمها الأهلي.  فما هو الساحل؟ وما هي السردية التي ركبّت الساحل وما هي السردية التي ستفككه؟ (يمكن أيضاً استخدام هذه الأسئلة التحليلية في النظر إلى قسد والجزيرة السورية بكل المعاني المصنوعة لها)

    أضيف إلى ذلك، استنهاض دمشق الأموية من كتب التاريخ، واستنطاق الصفة الأموية بمعانٍ سياسية لا طاقة لبني أميّة بها اليوم، فما معنى دمشق الأموية مكانياً وسياسياً وثقافياً؟ وأين تبدأ وتنتهي؟ مثلاً هل يجب أن نُقصي مشروع دمر، أو مخططات إيكو شار من دمشق الأموية؟ وهل يمكن أن نعتبر دمشق أيوبية؟ أو هيلينية؟

    كل هذه الأسئلة تطرح علينا أهمية فهم معنى المكان والفضاء السوري (بجميع الأبعاد الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية) بالنسبة لنا كممارسين له. وهو ما ستحاول هذه المقالة التقديم له بالحديث عن مفهوم الفضاء الاجتماعي، وسرديات المكان، وما بينهما من جدليات قادرة على التدخل في الواقع، أو على صناعة واقع جديد، موازٍ أو متطابق مع الحياة اليومية، أي على التدخل فيما هو سياسي، وما هو دافع للتغيير.

    الكلمة المنطوقة / المكان الذي نعيش فيه

    حالها حال الكلمات في المعاجم، لا معنى أو دور أو غاية للأماكن في حال ظلّت في مخطط عمراني فقط، ولذلك فإنها تحتاج إلى سياق، وإلى متحدث ومستمع؛ فتتغير بتغير هذه العوامل. فإنّ الكرسي ذاته (بمعناه المعجمي) قد يقبع في بيت، أو في قصر، أو في معتقل، أو في مطار، (فماذا عن معناه الممارساتي؟) وبالتالي، فإنّ كل مكان بحاجة إلى الممارسة حتى يتحول إلى فضاء.

    ولهذا فإننا لا نتحرك مثلاً في المدينة بكونها مكاناً، بل بكونها فضاءً اجتماعياً لعلاقات اجتماعية وسياسية وثقافية وغير ذلك. وبالتالي فإنّ الفضاء هو المكان الذي تحدث به الحياة[1]. ولكن ما أهمية أن يتحول المكان إلى فضاء؟ الأهمية تكمن في الممارسة فقط. الفضاء سيتحقق بوجود الحياة بدون شك، لكن ما يهمّنا هو أن ننتبه إلى أن أية ممارسة اجتماعية اليوم ستساهم في تشكيله غداً.

    يعتقد هنري لوفيفر، صاحب أطروحة “إنتاج الفضاء” أنّ توليد (إنتاج) الفضاء الاجتماعي بالنسبة لمجتمع ما، يستطيع من خلاله أن يمثل نفسه، (حيث يتطابق الفضاء مع المجتمع)، ليس أمراً بسيطاً، بل إنه عملية معالجة مستمرة تحتاج الوقت[2]؛ عملية جدلية سياسية أيضاً بين مختلف العناصر المؤثرة في الفضاء العام (شعب + سلطة + جيوسياسة..الخ). بمعنى آخر، نحن لا نعيش في فضاء موجود مسبقًا، وإنما ننتجه من خلال الممارسات الاجتماعية (الأفعال اليومية)، وعلاقات القوة (السلطة، القطاع الخاص، مخططي المدن)، والأيديولوجيا (الأفكار السائدة، القيم الثقافية..الخ). وقد قدّم هنري لوفيفر لهذه العناصر المختلفة عبر مفهوم الثالوث المكاني، الذي يساعدنا في فهم تحولات المكان والمفاهيم المكانية في سوريا.

    يتألف الثالوث المكاني، أولاً: من الممارسة المكانية؛ أي الفضاء المُدرَك (Perceived Space)، ويشير إلى فهمنا لأنماط الحياة اليومية وممارساتها. مثلاً أن نعرف أن الخطوط البيضاء في الشارع قرب إشارة المرور، هي لعبور الشارع حين تتوقف الإشارة، أو أن نفهم أن الرصيف للمشي، وأنه لا يمكن أن نرمي الأوساخ في الحديقة. بمعنى آخر، الفضاء المدرَك، هو الفضاء كما يجب استخدامه. أما ثانياً: فهو تمثّلات الفضاء؛ أي الفضاء المتصوَّر (Conceived Space) ويمثل الفضاء المفاهيمي التجريدي الذي خلقه مخططو المدن، أو السلطة التي صممته. مثلاً: يصمم المخطط (أو الدولة) مساحات عامة للناس كالحديقة للسيران ضمن تخطيطهم للمدن (لكن الناس قد تستخدم المساحة بطريقة مختلفة) وهو بالتالي الفضاء كما يتم التفكير فيه نظرياً. وأخيراً: لدينا الفضاء المتمثل؛ أي الفضاء المعاش (Lived Space) وهو فضاؤنا كممارسين، مشبعاً بالعاطفة والرمزية الشخصية والذاكرة، ويرتبط بذواتنا وباستخدامنا للمكان، وبالتالي فهو الفضاء كما يتم الشعور به، أو كما نريد أن نعيشه. فمثلاً، سيقطع الناس الشارع من أماكن مختلفة، أو سيذهبون في سيران على عشب طريق المطار (في دمشق) أو ساحة جامع خالد بن الوليد (في حمص)، وغيرها. وبالطبع فإن الفضاء الذي نعيش فيه، هو عبارة عن خليط كبير من هذا الثالوث من نتيجة تفاعلنا معه وجدالنا حوله. وبالتالي فهو حوار بين السلطة المعرفية (المخطط الهندسي) والسلطة السياسية (الحوكمة المكانية) والمستخدمين (الشعب).

    هويّة المكان/ كأس ماء تحت حنفية

    بالنسبة للجغرافية البريطانية دورين ماسي[3]، من الممكن فهم أيّ مكان من خلال العلاقات الاجتماعيّة فيه؛ أي من خلال التفاعل الاجتماعيّ والعلاقات السياسيّة القائمة في مجتمع هذا المكان. وليست هوية الأمكنة إلّا نتاجًا لموضَعة ومقارَبة وتشارك هذه العلاقات الاجتماعيّة في المكان المدروس. ولأنّ هذه العلاقات الاجتماعيّة (ستكون بشكل أو بآخر) تتغيّر باستمرار، فإنّنا يمكن أن نقول وبكلّ جرأة، إنّ هويّات الأماكن، هي هويّات متحرّكة، كهويّات المجتمعات البشريّة الّتي تسكن هذه الأماكن، وبالتالي، وكأنّ المكانَ كأسُ ماء مملوء وموضوع أسفل صنبور ماء؛ كلما فُتح الصنبور، تغيرت ماء الكأس. مثلاً يمكن أن تخرج المدينة المحتلّة من هويّة الاحتلال إلى هويّة فوق وطنيّة (سوريا بعد الانتداب)، ويمكن أن تخرج المدينة من هوية وطنية إلى هوية تاريخية (سوريا الأموية)، أو من ديناميّات اجتماعيّة إلى أخرى تغيّر وتعدّل من هويّتها بشكل لا يمكن توقّعه. لذلك تقول ماسي بكلّ جرأة: “إنّ هويّة أيّ مكان، بما في ذلك الّذي نسمّيه بيتًا، هي هويّة قابلة للطعن بطريقة أو بأخرى[4]“.

    ما أهمية كل هذا ودوره في سوريا الجديدة؟

    تساهم التغييرات البسيطة اليومية في ممارسات المكان، أو في ما يُسمح/ لا يُسمح لنا فعله فيه، تساهم في تغيير هوية المكان تدريجياً وبالتالي تغيير الفضاء المعاش بالنسبة لنا، وتغيير الفضاء الاجتماعي الذي نعيش به، وهو الفضاء الذي يستطيع أن يؤثر على توليد الأفكار في المجتمع والسياسة. وهو ما كان في سوريا السابقة، حيث عمل النظام البائد على مدى عقود في تخريب أو تعطيل مختلف الفضاءات العامة[5].

    ولذلك، فإن بعض التغييرات البسيطة في الممارسات اليوم، تساهم بطريقة أو أخرى في التأثير على الفضاء العام. مثلاً فإن تغيير طبيعة الأذان في الجامع الأموي (إن حدث)، هو ليس تغييراً جمالياً، بل هو تغيير على مستوى الفضاء العام (أيديولوجي أو سياسي)، وكذلك فإن مرور سيارة دعوية، أو تغييرات ساحة عبد الله الجابري في حلب، ليست تغييرات أخلاقية/ جمالية، بل هي تغييرات قادرة على إعادة تعريف الفضاء العام والتأثير على المجتمع. لكنّ هذه التغييرات لا تتوقف على التغيير المادي، بل قد تكون في مستوى السرديات، أي على المستوى اللغوي. وهو ما رأيناه في دخول مصطلح “سوريا الجديدة” الذي بعث في قلوبنا الأمل وأعطانا مساحة للشعور في التغيير. ومن جهة ثانية، سهّل مصطلح فلول “الساحل” تغيير معنى المكان واستباح الحديث عنه بأشكال متعددة، لا يجب التهاون معها.

    أدوات تقاوم / السرديات الذاتية في تخطيط الفضاء العام

    كلّ كاتبٍ صانعُ خرائط[6]، حيث يتشكل النصّ المكتوب بالسرد ويقوم عليه وبه، ليصبح بذلك عالماً خاصاً يدخله القارئ أو الباحث ويمشي في أفكاره الشوارع وينتج منه مكاناً جديداً يعكس أو يوازي أو يقابل مكاناً جغرافياً أو تاريخياً. وهنا أستحضر مثلاً نصوص أي مؤرخ محترف أو هاوٍ، ودورها في فهمنا للمكان المدروس وسبل العيش فيه. بمعنى آخر، فإن كل كتابة هي إعادة إنتاج للمكان واستعادة له من أي سلطة قادرة على امتلاكه وحرمان الناس منه.

    من هذه النقطة تصبح مشاهداتنا اليومية، أو ملاحظاتنا الممارساتية للعيش في سوريا، أدوات فعل سياسية، قادرة على صناعة التغيير والتأثير حتى ولو على صعيد الحوار الوطني القائم افتراضياً أو واقعياً، ومع كل نص جديد (سردية) عن سوريا (أو أي مكان فيه) هناك نص سيتشكل للمقاومة أو للتوضيح أو للتجسير بين جميع الأطراف، وسد الثغرات التي قد تنمو على أطراف السرديات الساعية للشقاق. وإنّ هذه السرديات مجتمعةً ومتفاعلةً مع بعضها ستساهم حتماً في “سوريا الجديدة” من خلال تفاعلها وجدلها في سبيل امتلاك الحق فيها.

    فالحديث عن الحق في مدننا في سوريا لا يقل صعوبةً عن المجتمعات التي تقطنها وتعيش بداخلها؛ فليست المدينة، سوى رغبة الإنسان في إعادة تشكيل العالم (سياسياً ثقافياً واجتماعياً)، إنّها شكلُ الحياة التي نريد أن نعيش، وانعكاس لما نريد أن نصير، وإن كل محاولة جديدة لإنتاج المدينة، هي أيضاً إعادة إنتاج للإنسان الذي يعيشها. وبالتالي، فإن نوعيّة المدينة التي يريد الإنسان أن يسكنها، هي مسألة غير منفصلة عمّا يريد أن يكون، وعن أنواع العلاقات الاجتماعية وأنماط الحياة التي يسعى إليها، وعلاقتها بالمحيط البيئي وقيمها الجمالية[7].

    ختاماً، أشير إلى تعريف المدينة حسب «معجم الدوحة التاريخيّ»: “المدينة: المِصرُ الجامع والمكان الكبير”؛ أي أنّها المكان القادر على جمع مجموعة من الناس، واحتواء سرديّات عديدة وكثيرة. ومن معاني كلمة المِصر أيضًا، أنّه الحدّ؛ وعليه فإنّ المدينة (كل مدينة ولا سيّما كل مدينة سوريّة) هي مجموعة أمصار مجتمعة؛ أي حدود مجتمعة؛ أي ذوات مجتمعة. تقوم على الاختلاف وتسعى إلى جمعه وتحديده.


    [1] Michel De Certeau. trans. Steven Rendall, “The Practice of Everyday Life”, (University of California Press, Berkeley 1984). 124

    [2] Henri Lefebvre. “The Production of Space”. (Oxford, England: Blackwell. 1991) 34.

    [3] Doreen Massey, “Space, Place, and Gender”, (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1994).

    [4] Ibid, 167-169.

    [5] انظر: محمد جمال باروت، “العقد الأخير في تاريخ سورية جدلية الجمود والإصلاح”، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، 2012.

    [6] Robert T. Tally Jr. “Literary Cartographies: Spatiality, Representation and Narrative”, (NewYork, Palgrave Macmillan: 2014) 1.

    [7] وهو ما يشير إليه السوسيولوجي المعماري روبرت بارك معرّفاً المدينة بكونها قيام الإنسان بإعادة إنتاج العالم وفقاً لأهوائه ورغباته. انظر:

    David Harvey, The rebel cities from the right to the city to the urban revolution, New York: Verso, 2012

  • الامتياز كعائق في وجه العدالة

    الامتياز كعائق في وجه العدالة

    قال لي أحدهم، ساخراً: انتو قد ما حاولتو تقلدو الأوروبيين ما رح يرضو عنكم.”وسمعت آخر يقول: تعال عيش معنا يومين، وبعدين احكي عن المجاهدين اللي حرروا.” أما السؤال الذي لم أنسَه:

    ليش إنت ما سني؟ وكأن الأمر صار بطاقة عبور أو صك صمت.

    المثير للاهتمام أن الذين استخدموا هذه العبارات كانت لديهم منذ طفولتنا و خلال أيام الثورة امتيازات فردية وعلى مستوى عائلاتهم.. امتيازات كان لتوفر على أبي بضعاً من سنوات الاعتقال..

    أبي، المعتقل سابقًا، يسمع من أصدقائه كلامًا عن “عيب أن يفكر ابنه بهذه الطريقة”. قيل لي إن عليّ أن أخجل، لا مما أكتبه، بل لأنني أكتبه “وأنا ابن معتقل”. وكأن هذا الإرث يجب أن يكون سجنًا إضافيًا، لا بابًا للتفكير.

    سمعت أقربائي يتكلمون، بعضهم لم يرَ مظاهرة إلا من خلف شباك بيته خوفًا، وبعضهم غادر منذ الثمانينات ولم يعد، لكن كلماته كانت حاسمة: كل شي عم يصير طبيعي… هاد حقنا نحنا بعد كل هالسنين صار دورنا.”


    شعرت أن كلٌ يتحدث من جرحه، لكنه يتسلح – أحيانًا بوعي وأحيانًا بدونه – بامتياز ما: امتياز الانتماء، أو البقاء، أو الخروج في الوقت “الصحيح”، أو حتى الصمت الطويل الذي بات فجأة شهادة.

    في معظم هذه اللحظات، اخترت الصمت عن الرد بالمثل. ليس دائمًا عن قناعة، بل أحيانًا خشية أن يُستخدم امتيازي ضدي، أو أن أمارسه دون أن أدري. لكن هذا الصمت لم يلغِ الأسئلة التي بقيت تُلاحقني: ما الذي يجعل صوتًا مسموعًا وآخر مهمَّشًا؟ متى يصبح الامتياز سلاحًا؟ ومتى يصبح عائقًا أمام أبسط أشكال العدالة؟

    من هنا، جاءت هذه التدوينة. ليست تنظيرًا، بل محاولة لفهم… وللبدء من نفسي.

    في النقاشات المرتبطة بمفهوم “الامتياز”، غالباً ما يتجه الذهن مباشرة إلى النماذج الغربية، حيث يتم الحديث عن “امتياز الرجل الأبيض” الذي تراكم بفعل قرون من الاستعمار والهيمنة. لكن الامتياز ليس حكراً على الغرب، ولا هو دائماً مرتبط بالبشرة أو اللغة. في الحقيقة، الامتيازات موجودة في كل المجتمعات، بما فيها سوريا، وتتخذ أشكالاً متعددة يصعب أحياناً رصدها لأنها تصبح جزءاً من النسيج اليومي لعلاقاتنا ومؤسساتنا.

    الامتياز هو ببساطة تلك الأفضلية غير المعلنة التي نحصل عليها لمجرد انتمائنا إلى جماعة ما، سواء كانت دينية أو طائفية أو طبقية أو جندرية. لا يتعلق الأمر بالنية أو بالشر الشخصي، بل بمنظومات كاملة تمنح البعض أماناً أكبر، فرصاً أوفر، تمثيلاً أوسع، وأصواتاً أعلى، فقط لأنهم وُلدوا في الحي أو العائلة أو الجماعة “الصحيحة”.

    في زمنٍ ليس ببعيد، كان من السهل أن نشير بأصابعنا إلى من يملكون الامتيازات: أولئك القريبون من أجهزة الدولة، أبناء المدن الكبرى، المنتمون إلى طوائف محددة، أو ببساطة من ولدوا على “الجهة الصحيحة” من الخط الفاصل بين السلطة والخوف. كانت خارطة الامتياز مرسومة بوضوح فوق حدود القمع، موصولة بأجهزة الأمن، وموثّقة في أرشيفات المخابرات.

    لكن ماذا يحدث حين ينهار النظام القديم، دون أن تُفكّك بنياته الرمزية؟ ماذا يحدث حين تُنقل السلطة من يد إلى يد، وتبقى البُنى الاجتماعية والتراتبية الثقافية على حالها، بل وتتكرس عبر وجوه جديدة وخطابات مغايرة ظاهراً؟ هنا، يبدأ الامتياز في اتخاذ أشكال أكثر ضبابية وأحياناً أكثر عُمقاً.

    ما بعد الأسد، تحوّل شعار “الحرية” إلى إطار فضفاض، يُملأ بما يناسب اللحظة السياسية. أعيد تشكيل السلطة، لا عبر المؤسسات بل عبر الولاء. لم تعد الأجهزة القديمة تحكم، لكن أجهزة جديدة بدأت تظهر، وإن كانت لا تلبس البزة ذاتها. وبهذا، بدأ نوع مختلف من الامتياز بالتشكل: امتياز الانتماء إلى المعسكر الصحيح، إلى الجماعة “الشرعية”، إلى الخطاب المهيمن الجديد.

    امتيازات ما بعد التحرير ليست امتيازات مادية فقط. بل هي رمزية، خطابية، اجتماعية. هي الحق في التعبير، في اتخاذ القرار، في الاحتجاج، أو حتى في البقاء صامتاً دون اتهام. من يملك امتياز الحديث باسم “الشارع”؟ من يُسمح له بتقديم نفسه كجزء من “الثورة”؟ ومن يُقصى، ويُسكت، ويُعاد تصنيفه كغريب أو كمتفرج؟

    هناك مفارقة مؤلمة تظهر هنا: في لحظة سقوط الطغيان، لا تسقط معه كل طبقات الامتياز. بل يُعاد إنتاجها، غالبًا تحت غطاء الشرعية الثورية أو الأخلاقية. يُطلب من البعض التزام الصمت لأنهم “لم يعيشوا الواقع”، ويُطلب من آخرين تقديم الولاء كي لا يُشكك في انتمائهم. وبين هذا وذاك، يُعاد رسم خارطة الصلاحية السياسية والاجتماعية.

    في سوريا، ومع تغير شكل الدولة، تشكلت امتيازات جديدة فوق الركام القديم. ففي مناطق النظام سابقاً، ارتبط الانتماء الطائفي ببنية الأمن والجيش والفرص الوظيفية. وفي مناطق المعارضة حينها، لا سيما تلك التي هيمنت عليها فصائل دينية أو عسكرية، أصبح الانتماء إلى الأغلبية الدينية المحافظة مصدراً لشرعية اجتماعية وسلطة أخلاقية، ما همّش الآخرين أو دفعهم للهجرة أو الصمت.

    الآن لدينا أولئك الذين يتغنون بأمجاد “الأمويين الجدد”، مدّعين أنهم استعادوا حقاً تاريخياً مسلوباً، لكن هذا الادعاء غالباً ما يخفي وراءه نظام امتيازات جديد لا يختلف كثيراً عمّا سبق، سوى في اللغة والرموز.

    ومن المضحك في باب هذه الظاهرة ملاحظتها بشكل واضح عند مجموعات وأشخاص لم يعرفو من الثورة سوا اسمها وكانو يتمتعون بامتيازات سواء بسبب وضهم المادي او تواجدهم خارج سوريا خلال الثورة أو سياق عائلاتهم اجتماعياً أو وظيفياً.

    الخطير في هذه الامتيازات أنها تُمارس غالباً دون وعي. فالشاب الذي لا يتم توقيفه عند الحواجز لأنه ينتمي إلى المنطقة أو الطائفة “المألوفة”، لا يشعر أن ذلك امتياز، بل يعتبره “الطبيعي”. والرجل الذي يقرر إيقاف سيدة في الطريق ليخبرها ما هو الرداء الصحيح التي عليها ارتداءه أو أن يسأل شخصين يمشون سوياً في الطريق عن علاقتهم ببعضهم البعض، لا يرى في نفسه صاحب سلطة، بل مؤدٍ لواجب اجتماعي. والمتدين الذي يسخر من ملحد أو لا دينياً او من متبعي دين آخر، لا يرى في سخريته قمعًا بل “دعوة بالحسنى”.

    ولعل أسوأ ما يمكن أن يصيب مجتمعاً مثل المجتمع السوري، هو أن تتحول فئات منه من ضحية إلى جلاد، أو من مهمشة إلى مهيمنة، دون أن تعي التحول الحاصل أو مسؤوليته الأخلاقية. لأن تكرار البنية التمييزية نفسها، حتى تحت شعارات جديدة، لا يبني عدالة، بل يؤسس لدورة عنف جديدة.

    لم تُبْنَ العدالة يومًا فوق امتيازات صامتة.

    لا يمكن تحقيق أي شكل من أشكال العدالة دون مساءلة الامتيازات وتفكيكها. وهذا لا يعني إدانة الأفراد، بل دعوة للتأمل الذاتي، والاعتراف بمواقع القوة التي نحتلها أحياناً دون استحقاق، وفهم أثرها على من هم حولنا. فهل من المقبول مثلً أن تُحمى متاجر العاصمة ولا تُحمى متاجر طرطوس؟ أو أن يصان مزار خالٍ من الناس دون أن تُصان حانة مليئة بالبشر؟ وهل من المقبول أن نشعر بالغضب حين تُنتهك حريتنا، بينما نبرر انتهاك الآخرين بحجة أنهم “ليسوا من جماعتنا” أو “أفكارهم شاذة”؟

    من واجب الدولة، أيّاً كانت هويتها، أن تحمي كل من يقيم تحت سلطتها. لا يهم دينه أو مذهبه أو نمط حياته. فالمقهى والكنيسة والمسجد والحانة والمدرسة، كلها فضاءات مدنية، يُفترض أن تكون تحت حماية القانون لا أهواء الأكثرية.

    اليوم، وبعد التحرر من قبضة نظام الأسد، صار من الممكن الحديث عن الامتيازات بشجاعة أكبر. لم تعد المسألة محصورة بالتمييز الرسمي أو الممنهج. الآن هو الوقت لنفكر بكل امتيازاتنا الاجتماعية والثقافية: عن اختلاف الامتيازات بين أبناء الريف والمدينة، بين السوريين في الداخل واللاجئين أو المغتربين، بين من بقي تحت القصف ومن غادر مبكرًا، بين من يملك شبكة علاقات ومن يعيش على هامش الفضاء العام. لم يعد الحديث عن العدالة ممكنًا دون التوقف عند هذه الفوارق التي تزداد وضوحًا مع تعمق الانقسامات، وتعدد السياقات التي بات السوريون يعيشون فيها.

    في هذا السياق، ظهر امتياز جديد لم يكن مُعرّفًا من قبل بهذا الوضوح: امتياز الخارج أمام الداخل. امتياز اللاجئ أو المنفي أمام من بقي في الداخل، أو لم يتمكن من مغادرته. للوهلة الأولى، يبدو الداخل أكثر قربًا من الحقيقة، وأكثر شرعية في التعبير عنها. هذا صحيح جزئيًا. لكن ما يُغفَل غالبًا هو أن الخارج، على الرغم من آلام التهجير والشتات، بات يمتلك أدوات قوة ناعمة لا يملكها الداخل: حرية التعبير، الأمان الشخصي، إمكانية الوصول إلى الإعلام، المؤسسات الدولية، التمويل، فرص التعليم والعمل، وحتى الحق في الحلم بمستقبل لا تحكمه الفصائل والسلاح أو العوز اليومي.

    بات الخارج، دون قصد، ناطقًا رسميًا باسم الداخل. لا لأن الداخل اختاره، بل لأن السياق العالمي اختار ذلك. صار صوت الخارج أعلى، لا لفرط صدقه دائمًا، بل لأن أدوات تضخيم الصوت موجودة بين يديه. وصار الداخل يُستدعى كصورة، كشهادة، كحكاية، ولكن نادرًا ما يُمنح موقعًا مساوٍ في إنتاج القرار أو التأثير فيه. ما يُقال عن الامتيازات الجندرية أو الطبقية يمكن تطبيقه هنا. اللاجئ المثقف، المتعلم، الناطق باللغات الأجنبية، المتصل بالشبكات الأوروبية أو الأممية، يتمتع برأسمال رمزي هائل، يُستثمر عادة باسم “القضية”. بينما الداخل، الذي ربما لا يملك سوى نجاته اليومية، يُنظر إليه بعين التعاطف لا بعين الشراكة. هذا لا يعني أن الخارج لم يعانِ، أو أن حياة اللجوء ليست قاسية. لكنها بالرغم من قسوتها تفتح إمكانيات لا تُتاح لغيره. في حين يُطلب من الداخل أن يصبر، أن يتحمّل، وأن يقبل بقرارات تُتخذ في اسمه دون أن يُستشار. وهنا يظهر الامتياز في أبعاده الأخطر: حين يتحول من حماية للفرد إلى أداة لتقليص شرعية الآخر.

    نحن أمام مشهد غير متوازن: الخارج يُنتج سرديات الداخل، والمنفى يُعرّف الثورة، بينما الداخل يُعاد تأطيره كحقل لتطبيق هذه السرديات، أو كمرآة لإثبات صحتها. هكذا، يتحول الامتياز إلى سلطة رمزية جديدة، قد لا تُدرك نفسها كسلطة.

    أن تكون من الداخل لا يمنحك دائمًا الفهم، وأن تكون من الخارج لا ينزع عنك الألم.

    الأمر لا يقتصر على الخارج مقابل الداخل. بل هناك أيضًا امتياز البقاء أمام الخروج، وامتياز “الاختيار” أمام “الاضطرار” اللاجئ الذي تمكن من المغادرة عبر ممر قانوني، أو الذي نجح في الاستقرار والتأقلم، يختلف موقعه عن أولئك الذين غادروا تحت القصف دون أوراق أو شبكات دعم. اللاجئ في ألمانيا ليس كاللاجئ في مخيمات البقاع أو في مدن الجنوب التركي أو في شمال الأردن. والداخل الذي اختار البقاء لأسباب شخصية أو سياسية ليس كمن فُرض عليه أن يبقى. الامتياز هنا يتجسد في إمكانية الحكي، في إمكان السيطرة على السرد، وفي مساحة القرار.

    حين نقول “امتياز”، لا نعني بالضرورة امتلاك المال أو الراحة. بل نعني تلك المساحات التي يُمنح فيها شخص ما خيارات أكثر، وصوتًا أعلى، وحصانة أكبر من القمع أو التهميش أو النسيان. ولهذا فإن مواجهة الامتياز تبدأ بالاعتراف به، لا بالتنصل منه.

    علينا أن نسأل أنفسنا: كيف يمكنني أن أستخدم امتيازي  كمن يعيش في الخارج، أو كمن يُسمع صوته أكثر دون أن أُقصي من لا يملك ذات الإمكانية؟ كيف أُفسح المجال لسرديات لا تمر عبر لغتي، أو منظوري، أو سيرتي الذاتية؟ كيف أكون حليفًا دون أن أفرض تمثيلًا؟ وكيف أُنصت دون أن أُعيد قول ما سمعت على طريقتي؟

    إن إحدى أخطر تبعات الطغيان هي قدرته على أن يستمر من خلال من قاوموه، إن لم يُفكك من جذوره. والتفكيك لا يعني فقط إسقاط الديكتاتور، بل إسقاط المنظومة التراتبية التي تجعل بعضنا يتكلم باسم الآخرين، أو يُحتفى به لأنه “يشبه الغرب” أو “يفهمهم أكثر”، بينما تُطوى حكايات الداخل في الأدراج.

    في النهاية، لا يُطلب من أحد أن يتنازل عن حياته أو أن يعتذر عن نجاته. بل يُطلب فقط أن ننتبه إلى السياق، إلى الموقع، إلى الاختلاف، إلى تباين الإمكانيات، وأن نستخدم هذا الوعي في بناء علاقة جديدة، لا تقوم على تمثيل الآخر، بل على خلق مساحة مشتركة للعدالة، يبدأ فيها كلٌ من موقعه، دون أن يلغيه.

    ولأني لا أسعى إلى تنظير واسع حول الامتيازات، بل إلى تذكير بسيط بوجودها، فإني أطرح الأمر كدعوة شخصية، منّي إلى نفسي ومني إليك، بأن نتوقف لحظة قبل كل ردة فعل، كل حكم، كل تصرف. لنسأل: من أين أنطلق؟ ما الذي يمنحني الثقة أو الجرأة أو الصوت؟ وهل يملك الطرف الآخر ما أملك؟ أم أنه محروم من ذات المساحة التي أتحرك فيها بحرية أو من امتياز امتلكه أنا؟

    في كل قرار، هناك امتياز خفي يتحرك في الظل. لحظة وعي به قد تنقذ علاقة، أو تحقن دمًا.

    لا يتعلق الحديث هنا بتجريم من يمتلك الامتياز، بل بفهم تموضعه. الامتياز لا يعني أنك لم تتألم، أو أنك لم تُعانِ. بل يعني أن جزءاً من العالم يُعامل وجودك على أنه طبيعي، مشروع، يستحق الحياة. بينما لا يُمنح هذا الامتياز للآخرين بنفس السهولة.

    المطلوب إذاً ليس جلد الذات، بل لحظة وعي. لحظة نقف فيها، كلٌ في موقعه، لنسأل: ما الذي أُتيحت لي فرصته دون أن أطلبها؟ ما الذي حُرم منه الآخر فقط لأنه لا ينتمي لنفس دائرتي؟ وكيف أُعيد توزيع المساحة، لا كمنّة، بل كتصحيح لمسار؟

    ما بعد الطغيان لا يعني نهاية السلطة. بل غالباً ما يكون لحظة ولادة سلطات جديدة. من هنا، لا يكفي أن نسقط النظام، بل أن نسقط من داخلنا تلك القواعد التي تحاول واعية أو من دون قصد إعادة إنتاجه بأسماء وأقنعة جديدة.

    الامتياز ليس وصمة، بل مسؤولية. وإذا أردنا فعلًا إعادة بناء سوريا، فلن يكون ذلك فقط عبر إسقاط نظام واستبداله بآخر، بل عبر إعادة النظر في علاقتنا بالسلطة، وبالآخر، وبأنفسنا. لأن الطريق إلى العدالة يمر أولاً بالاعتراف: أين أنا من هذه البنية؟ وأي امتياز أمارسه بصمتي أو بكلمتي دون أن أدري؟

  • عن الذين لا يشبهون أحداً

    عن الذين لا يشبهون أحداً

    لم أكن درزياً يوماً. وُلدت كذلك. لكن الولادة ليست وعداً، ولا قدراً. كانت خانة فارغة مُلئت دون استشارتي، كما مُلئت لاحقاً خانات الدين، والجنسية، وحتى اللغة. لم أكن أبحث عن تمرّد، كنت أبحث عن معنى. ولم أجد في الطائفة ما أتمرد عليه. وجدت صمتاً لا يجيب، وشكلاً لا يسعني. لم أجد في الإيمان ما يغويني. لا لأنه شرّ، ولا لأنه طمأنينة زائفة. لم أعرف يوماً كيف أُسلّم دون أن أسأل: لماذا؟ كيف؟ من؟ وماذا بعد؟

    مشكلتي لم تكن مع الفكرة، كانت مع الطاعة. مع أن يُقال لك إن هذا هو الطريق الوحيد، وإن السؤال انحراف لا بحث. حين يُطلب منك أن تؤمن أولاً لتفهم لاحقاً، يصبح الفهم نفسه متهماً. وأنا، ببساطة، لا أُجيد التأجيل حين يتعلق الأمر بالمعنى.

    ولدت في بيت لا يُشبه الطائفة. لا تُعلّق فيه صور الزعماء الروحيين، فقط خريطة فلسطين، ولا يُقسم على المصحف. بيت يُراكم الوعي كأنه حصن ضد التوريث. نشأت على أصوات الثوار، على الشيخ إمام ومارسيل خليفة وفرقة العاشقين. تربيت على النقاش، لا على الطاعة. وحين قيل لي إن الدين هو الملجأ، كنت قد رأيت أن الحرية وحدها تصلح للجوء.

    لم تكن السويداء مسقط رأسي الحقيقي. ولادتي كانت في المخيم، حيث لا أحد يُسأل عن طائفته، وحيث الخوف لغة موحّدة لا تحتاج إلى ترجمة. هناك، في زوايا المخيم، تَشكّلت علاقتي الأولى مع العالم. لا بصيغة “مَن أنا؟” لكن بصيغة “مَن بجانبي؟”. لم نكن نُسمّي بعضنا، كنا نُسند بعضنا. لم نكن جماعات، كنا طوابير خبز وماء وصمت. في اليرموك، كانت التجربة تُعلّمك أن تنتمي إلى من يجوع معك، لا إلى من يُصلّي معك.

    وحين بدأت أتلمّس نفسي، وجدتني أقرب إلى الإلحاد من أي إيمان موروث. كان الله كبيراً جداً على أن يُختصر في طائفة، صارماً جداً على أن يُدار بصوت شيخ أو قس. اخترت ألا أؤمن، لا رغبة في الهدم، وإنما لرغبة أعمق: أن أُعيد بناء صوتي دون وسائط. أن أكون كائناً حراً، لا رقماً في تعداد أبناء الطائفة. عرفت باكراً أن الثمن سيكون العزلة.

    لم أفهم يوماً لماذا يُفترض بي أن أُجيب عن مواقف السويداء. لماذا أحمل جغرافيتي كهوية، وأُملي رأيي وفق ما يُنتظر من أبنائها. لم أفهم لماذا تُصبح الطائفة مرآة تُطلب منك الشهادة أمامها، في كل مرة يشتدّ فيها الضجيج. كلما اهتزّ الجبل، اتجهت الأنظار نحوي: ما رأيك؟ كأنني المتحدث الرسمي باسم الاسم العائلي، كأنني الوحيد الذي لا يُسمح له بالصمت.

    لكنني لا أمثّل. لا السويداء، ولا المخيم، ولا الثورة. لا أكتب عن أحد، أكتب من مكانٍ بين الجميع وخارجهم. من ذلك الحيّز المتروك للذين لا يشبهون الطائفة، ولا يعادونها. الذين لا يرثون ولا يورّثون. لا تُنشر صورهم في مواكب الجماعة، ولا يُرفرف اسمهم على رايات الانتصار الهويّاتي.

    حين اندلعت الثورة، عرفت أنني بلا غطاء. لا طائفة تحميني، لا حزب يتبنّاني، لا فصيل يُهدي صورتي إلى الجموع. كتبت من فراغٍ شديد، من هشاشة لا تُترجم إلى موقف. من إدراك أن ما يُبنى على الدم الهويّاتي سيتحوّل إلى سجن. من يطلب منك أن تمثّل لا يريد صوتك، يريد استخدامك كعدد.

    في بلادٍ تُدار بالهوية، يُصبح الصمت تهمة، والانفراد ارتياباً، والحياد خيانة. ويُصبح من لا يُشبه أحداً مشروع خطر دائم. نحن الذين لا نحمل خطاباً جاهزاً، ولا نُجيد أناشيد الجماعة، نُعامل كشوائب في النسيج الاجتماعي. لا نُقصى لأننا نعارض، فقط لأننا لا ننتمي. لا نؤذي أحداً، لكننا نُربك الجميع.

    وربما لهذا أكتب. لا أكتب لأقنع، أكتب لأترك ندبة. لأقول إن بين الانتماء والقطيعة، بين الطائفة كذاكرة والطائفة كأداة، هناك فراغ واسع يسكنه أناس لا يعرفهم الإعلام، ولا يذكرهم التاريخ. أناس لا تعنيهم الرايات، ولا تُقنعهم السرديات الكبرى. لا يُقيمون في الحشود، ولا يُشبهون الملصقات. أناسٌ آمنوا أن الفرد أغلى من الجماعة، وأن الموقف لا يُملى من فوق، بل يُصاغ في أعماق الذات.

    كيف أشرح لك هذا دون أن يبدو شعوراً خاصاً أو موقفاً عابراً؟ حين أنظر إلى وجه ميرا ثابت، لا أراها علوية. أراها امرأة سقطت لأنها خرجت من السطر، لأن جسدها لم ينضبط مع المرويات. لا أراها ضحية طائفة، بل ضحية مجتمع لا يحمي من لا يلتزم بقواعده. مجتمع يعرف جيداً كيف يعاقب الخارجين: بالصمت، بالتحريض، أو بالذبح.

    وحين أرى طلاب السويداء يهربون من جامعاتهم، لا أراهم دروزاً. أراهم شبّاناً خائفين، يتراكضون في دولة لا تراهم، وطائفة لا تقدر على حمايتهم. لا يحملون سلاحاً، لا يرفعون راية، ولا يطلبون شيئاً سوى أن يُتركوا وشأنهم. فقط وجوههم المرتبكة، وجلهم أمام الخراب، ما يجعلهم يشبهونني.

    في تلك اللحظات، أفهم دون تنظير، دون فلسفة، أن الوطن ليس من يشبهك، بل من لا يطلب منك أن تتطابق معه. ليس الجبل، ولا المخيم، ولا اسم الطائفة على الهوية. الوطن هو تلك اللحظة التي تُغمض فيها عينيك وتهمس: “أنا لا أمثّل أحداً، لكنني أرفض القتل، ولو لم يكن من حصتي”.

    أنا لا أُشبه أحداً بما يكفي لأمثّله. لا أريد أن أكون حصة طائفة، ولا رمز جغرافيا، ولا رقماً في إحصاء تمثيلي. أكتب لأنني نجوت من الهندسة الاجتماعية. لأنني لم أُصبغ بلون العائلة، ولا شُكّلت على مقياس الجماعة. أكتب لأنني اخترت، لأنني خرجت، لا لأنني أُخرجت. ولهذا فقط، أنا أكتب.

    وفي بلادٍ كهذه، لا يُقاس الانتماء بالمحبة، يُقاس بالانضباط. لا تُسأل إن كنت تؤمن، بل إن كنت تُطيع. من يخرج يُسمّى خائناً، لا لأنّه خان، لكن لأن الخروج يُربك البنية. لأن الكائن الحرّ لا يدخل بسهولة في المعادلات. لكن الخروج، في هذه الأرض التي تُحكم بالوراثة، ليس نكراناً. هو النجاة الأخيرة من موت جماعي يُباع على هيئة هوية.

    الخروج هنا ليس تمرّداً. هو فعل بقاء. رفض الطائفة لا يعني خيانة الأهل. يعني إنقاذهم من أن يُختصروا في ذراع سياسية أو راية دموية.

    الخروج، من هذا الركام، ليس خيانة. هو ولادة ثانية، دون قابلة، دون دولة، دون طائفة. أن تولد واقفاً، عارياً، مسؤولاً عن نفسك وحدك. أن تكتب، لا لأنك تُجيد الكتابة، بل لأنك لم تعد تملك سواها لتمنع انزلاقك في القطيع.

    في بلاد كهذه، الخروج هو المعنى الوحيد الذي يمكن البدء منه.

  • من قامشلي إلى زورافا

    من قامشلي إلى زورافا

     عندما تصبح الزيارة إلى دمشق، التي لم أفهمها بعد، إقامة

    أبلغ اليوم الحادية والثلاثين من عمري، ولا تزال العواصم، كلها، عصية على الفهم لديّ. المدن المتناقضة كانت، ولا تزال، محطات مؤقتة بالنسبة لي. أحاول استيعاب وفهم دمشق، كما حاولت سابقاً، وحتى اليوم أفشل، لأنني ابنة المدينة الصغيرة التي تغلق أسواقها عندما يرتفع الدولار، ويرتبك سكانها وتضطرب حين تستهدف مسيّرة تركية شارعاً حيوياً. لأنني ابنة الخيارات المحدودة والمؤطرة، وابنة “وحدة الحال” النسبية، لذا يؤرقني اختيار دمشق كوجهة عمل، ولا يزال.

    ولأننا لم نملك رفاهية تسجيل وتوثيق ما نشاهده سابقاً، ولأنني وعدت نفسي أن أوثق أيامي، أسجل اليوم وأكتب في غمرة يوم 8 كانون الأول/ديسمبر، في سهرة اليوم وسكرته، قررت الكتابة.

    سكنت شهراً في وادي المشاريع، المنطقة التي بُنيت بالغصب قبل أكثر من خمسين عاماً، ولم يظهر فيها “العلم الأحمر”، على الأقل في الأعوام ال 10 الأخيرة كتحدٍ أو للتذكير على أننا قطعة من هناك، ظل العلم موجوداً كرمز فقط على حاجز الدخول، مرسوماً على جدار متهالك. عشت بين أهالي قامشلي، عفرين، ديريك، دير الزور، وبعض من منكوبي الشام، مع جدتي التي كان انتقالها إلى دمشق عام 2015 قراراً اجتماعياً بالدرجة الأولى، للعيش مع خالي الذي افتتح عيادته السنية هناك. جدتي التي، ومنذ وصولها، تلخّص دمشق بجملة واحدة: “السوق تحت البيت”، مختصرةً العاصمة كلها بالاسم الكردي للحي “زورافا”.

    دمشق، أو على الأقل الأجزاء التي رأيتها في يوم الجمعة 3 كانون الثاني لم تكن قد تجاوزت نشوة “هرب بشار” و”يلعن روحك يا حافظ” بعد.

    “متل أحلام العصر”  قلت لأصدقائي الذين رافقوني في الرحلة البرية، وهنا يحتاج الأمر لبعض السياق والشرح، فأنا لا أكتب لأخبركم بما تعرفونه مسبقاً، بل لأتعلم، ولأتذكر لاحقاً، ولأكون وفيةً لذاكرتي، أبدأ من هنا.

    لم أتجاوز بعدُ القدر الساخر الذي جعلني أوصل عائلة عمتي إلى مطار القامشلي يوم 7 كانون الأول، متجهين نحو دمشق للعلاج، حينها كانت الحياة متسارعة، وأي غفوة عن متابعة عواجل الشاشة قد تكلفك محافظة. مازلت أذكر حين طلب منا آخر عسكري على آخر حاجز أن “أكرمه”، وكانت آخر 2000 ليرة أخسرها لصالح منظومة الرشوة الغريبة والمعقدة في سوريا. ولم أنسَ آخر مرة يمنّ فيها “أبو إسكندر” – الذي يتباهى بـ”13 سنة خدمة مطارات” – بعلاقاته مع أكبر الضباط هناك.

    ولم أتجاوز بعدُ، كذلك، القدر الساخر الذي أجبرني على العمل في دمشق، أنا التي اعتادت التفاخر بقدرتها على امتصاص المدن الكبرى حتى الغرق، فما بالك بمدينة غارقة أصلاً في الأسئلة؟

    حياةٌ معلقةٌ بـ”إذا صار ما صار”.

    كانت المكالمة الأولى، يوم 9 كانون الأول، لصديق في أربيل. قلت له: “بدي بيت إذا صار ما صار”. بحثت عن أوراقي الثبوتية، عن كل ما يهمني، وأخبرت أصدقائي أن أهلي وكلبتي هم الركاب الوحيدون الذين سيرافقونيي في رحلة الهرب المقررة.

    لمَ الهرب؟ لأني من شمال شرق البلاد، من القامشلي تحديداً، نشأنا على قناعة أننا استثناء من كل ما يحصل في سوريا. كما كنا استثناءً لسنوات في مناقشة وضع البلاد وتقرير مصيرها. بالنسبة إليّ، كانت تلك النقاشات دائماً عبثية، مصحوبةً بسيناريوهات غريبة غرابة التداخلات الداخلية والخارجية في سوريا، أقرب للصراخ في جلسات آمنة، تنتهي عادةً بجملة: “إذا صار ما صار”.

    في الثالث من كانون الثاني، توجهت إلى دمشق. شاركت أرقام من كانوا معي في الرحلة، وقلت لأهلي: “إذا صار ما صار بتحكوهون”. فأنا ابنة البدائل التي لم تحظَ برفاهية اتخاذ القرار الأساسي، أتجه نحو المجهول غير المستساغ.

    في الطريق، سألت نفسي مليون مرة وأنا أرى أيقونات الديكتاتوريات المصغّرة التي أرعبتني لسنوات. حواجز الرابعة، والجويّة، والأمن السياسي، فارغة من كل شيء إلا من الكائنات التي أحبّ: الكلاب التي أوزع عليها بقايا الطعام، سألت نفسي مراراً: “أنا لوين رايحة؟”

    دمشق بين مشهدين

    على الطيف المعقد الذي يُسمى سوريا، هناك سرديتان أصادفهما على التواصل الاجتماعي ويتشابكان: الأولى قصة الموت المستمر الذي لم يتوقف رغم رحيل بعض الطغاة، لأن بعضهم الآخر ما زال طاغياً وآمناً. والثانية قصة “الحالة الشامية النمطية”، العراضة في قهوة الروضة على أنغام “مندوسهم”، صورة تشبه ما حاربه السوريون لسنوات، وما روّج له “قبنّض” عن التاريخ السوري في “باب الحارة”.

    في حين يحتفي أصدقائي على إنستغرام بذكريات كانون الثاني: سيلفيات السنة الجديدة، مشاوير عائلية، مناظر طبيعية، وصور سياحية لمن استطاع إليها سبيلاً. أما أنا، ولأنني من كثافة المشاهد لم أستطع تصوير أي مشهد، اكتفيت بصور ذهنية لا تستطيع إيصالها أي عدسة.

    1- علوش على الحاجز

      على الحاجز المؤدي لوادي المشاريع، يحتار القائمون عليه أي علم يعتمدون، “الأبيض” الذي كُتب عليه لا إله إلا الله، أو “الأخضر”. يوماً يضعون الاثنين بأحجام متماثلة، وآخر بأحجام متباينة، ومرة يضعون أحد العلمين دون الآخر.

      شاب ملثم ضخم وعضلاته بارزة يقف عند مدخل وادي المشاريع، أمرّ في اليوم الأول من الحاجز مع أحد أفراد عائلتي المقيمين في الحي، يناديه “شلونك علّوش”، يرد الشاب بحماس من تحت اللثام “يا هلا”. بعدها بأيام، أعبر الحاجز وأنا في “المكيرو”، يصيح السائق للشاب الملثم “حبيبنا علّوش”، يرد الشاب بالحماس نفسه “لك أهلين بالغالي”. بعدها بأيام أعبرُ، لأجد الشاب قد قرر الاستغناء عن التظاهر بالغموض وأزال اللثام، إذ لم تساعده أيّة أشكال من التنكر والجدية في منع أهل الحي من معرفته.

      2- المقاطعة … ماذا عن تركيا؟

        لا يخفى عن أحد كمية البضائع المستوردة  والمهربة التي تباع على بسطات دمشق، في البرامكة ينادي البائع “عالتركي”، وعلى أمتار منه ينادي الآخر “عالأجنبي”، وبالحس الصحفي الذي أنوي أن يتركني وشأني في هذه التعقيدات، أبحث عن عبارة “غير مخصصة للبيع”، أحاول في قرارة نفسي اتهام التجار بالسرقة لأني اعتدت، كإبنة الطبقة الوسطى الدنيا، أن الغني يسرق الفقير ومخصصاته، وفشلت في محاولاتي غير الحثيثة في إثبات سرقة المساعدات حتى الآن.

        أمر بجانب “بسطة” كما هو الاعتياد في هذه الأيام، ليسألني أحد الأصدقاء المرافقين في المشوار “شو برأيك فينا نعمل مشان المقاطعة”، أنا التي أقاطع أصدقاء افتراضيين وقنوات تلفزيونية وصحف ومراسلين/ات لممارستهم/ن كراهية معلنة ضد الكرد، أسأله “مقاطعة شو”، فيجيبني بحسه اليساري المتوقع “بضائع المقاطعة” في إشارة للبراندات/الشركات التي دعمت الحرب ضد المدنيين/ات بفلسطين.

        مؤرق الشرح، ويحتاج تدوينة خاصة ربما! لكنني أسأله عن البضاعة التركية، أنا التي كان سقف مقاطعتي هو مقاطعة “بيرا إيفيس”: أليست البضاعة التركية أجدر بالمقاطعة لأنها محتلة لوطنك؟ دون الدخول في تفاصيل الاتفاقية التجارية، أجد نفسي قد تحولت لكائن فضائي مختلف عن نمط “المقاطعة”، ولو أنه لا مانع من مقاطعة الاثنين والاكتفاء بـ”الوطني”!

        3- عدالة!

          في جلسة شبابية شبه رسمية، اتفق القائمون عليها أن نناقش موضوعاً من أربعة، وأنا التي اسمي نفسي الآن “مايسترو تايتانيك”، عازف الكمان في السفينة الغارقة، المصصمة على الحديث عن العدالة، أدخل مع مجموعة تُملئ قاعة كبيرة، إلى جلسة معنية بالعدالة الانتقالية، وكعادتنا في المساحات المدنية التي تصّر على أنها جزء من التغيير، ننقسم لمجموعات مكثفة، لنناقش كلّ منا رؤيته/ا للموضوع المعنيين به.

          على الطاولة معي، شاب في أواخر العشرين من إحدى المحافظات السورية التي عانى أهلها من التهجير، وبينما يكون الحديث على الطاولة عن أهمية المصالحة، التي يجب أن أبرر أنها لم تكن عن “تبويس الشوارب”، ينتفض الشاب ليقول “إذا شفت الزلمة يلي ساكن ببيتي ممكن أقتله”، ولا جدوى من محاولات إقناعه، من قبل أكثر من 6 أشخاص على الطاولة، بمسارات العدالة. أتدخل وأسأل: “لكن ماذا عن الحقيقة؟ ماذا عن كشف ما حدث؟”، يرد الشاب “أنا بعرف الحقيقة، الحقيقة أني تهجرت، وأنه ساكن مكاني!”.

          4-  البوح

            كنت أنتقد البوّاحين، وإذ أجد نفسي وأنا أكتب إنني منهم، الفارق الوحيد بيننا هو أداة البوح، أنا أكتب، وهم يتكلمون.

            أحبس الكلمات منذ وصولي إلى دمشق، فأنا إبنة البيت الذي تربينا فيه على ال Low Profile، لا أحد معني بمعرفة عملي، أفكاري ولا توجهاتي، كلها أحتفظ بها لنفسي بناءاً على نصيحة أهلي، لكنّ البوح هنا في أقصى مراحله، مرافقاً لصكوك الحقيقة التي يفرضها المحيط عليك، حقيقة كيف تتصرف ودرجة مشاركتك لما تؤمن به.

            دون سؤال، يشارك معي كل سائقي التكاسي قصههم، أحدهم قصة ظهور اسمه في قائمة الاحتياط قبل السقوط بأيام، والآخر يسرد قصة هروبه من التجنيد واختبائه، والثالث قصة إعدام أحد أقاربه في “مكبس صيدنايا” في مشوار كانت أزمة المرور من نصيبه، ومن أنا وسط كل هذا، لأروج للحقيقة وأنسف القصة التي آمن بها؟ وأنا المؤقتة في حياته.

            ودون الحاجة لأن يسألني أحدهم أو إحداهن عن حالي، أشارك مع كل من أعرفهم وكل من عرفتهم في دمشق، قصتي مع الخوف، مع الكره والتنميط الذي أواجهه ومع الفشل والمسؤولية، قصتي مع محاولات إحداث فرق في وطن على الأغلب وبالمنطق “مو فرقان معو” لا من أنا، ولا ما هي مخاوفي. في وطن يقوم بتنميطي وتاطيري، الأغلب فيه يقومون بتنميطي بسبب حرف الV  في اسمي على أنني من أصحاب المشاريع “غير الوطنية” -وهذه ألطف العبارات- خاصة حين أكمل اسمي بمكان سكني المؤقت “بيت ستي بزورافا”. ولأن القدر لا يكف عن السخرية من نمط حياتي، أعيش اليوم مع صديقتي في المنطقة التي لا تقل تعقيداً … في ال 86.

          1. الفضاء الانتقالي

            الفضاء الانتقالي

            ” الكتابة عن تجربة سياسية نضالية معارضة مهزومة بالقمع، وتوثيق هذه التجربة هي مساهمة في حمايتها من الضياع أولا ثم من التشويه الذي تمارسه آلة ضخمة من الإنتاج الكتابي الذي لا يحفظ من التاريخ سوى النسخة التي تبدو للعين المسيطرة، عين السلطات الغالبة، فيما تذهب إلى العدم رواية المغلوبين، ونسختهم من التاريخ. من الإنصاف للتاريخ وللأجيال القادمة أن يتولى المَغلوبون أيضاً سلطة الراوي، أن يُروى التاريخ من موقعهم وكما يظهر في عيونهم، انتشال التجارب النضالية من النسـيان والضياع والتشويه، يساعد الأجيال القادمة على تَمثل دروسها وعلى فهم مجتمعهم بصورة أفضل وتجاوز أخطاء دُفع ثمنها غالياً، ويساهم في ترجيح احتمالات أفضل للمستقبل.”

            هذه كانت مقدمة كتاب قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا لراتب شعبو، الذي وجدته في مكتبة “خان الجنوب” في برلين، عند قدومي إلى المدينة العام الفائت للعمل على مشروع بحثي حول الذاكرة الجمعية للفنانين السوريين المنفيين، وتأثير العيش تحت نظام ديكتاتوري وشمولي كحكم عائلة الأسد، على تجاربهم في المنفى بعد مرور أربعة عشر عامًا على انطلاق الثورة السورية.

            اقتنيت هذا الكتاب لأنني، وبمحض الصدفة، وجدته خلال أولى زياراتي للمكتبة، وصُدمت حين رأيت اسم والدي بين لائحة المعتقلين. والدي، الذي رحل عن هذا العالم بسبب سكتة قلبية قبل أربع سنوات، كان قد اعتُقل لثماني سنوات في سجون النظام خلال ثمانينات القرن الماضي، بسبب نشاطه السياسي. غيابه جعلني أفقد فسحة الأمل في أن يأتي يوم نتحدث فيه معًا عن تجربة اعتقاله التي لم يخبرني عنها إلا بشذرات قليلة.

            وجودي في برلين لدراسة موضوع المنفى والذاكرة، كان دافعه الأساسي هو تجربتي الشخصية: كوني أنتمي إلى عائلة ذات تاريخ سياسي، اعتُقل وسُجن معظم أفرادها تحت حكم الأسد الأب والابن.

            تجربتي كابنة لمعتقل سياسي سابق، ولقائي لاحقًا بأشخاص عاشوا تجارب مشابهة  بعضهم فقد أحبة تحت التعذيب، وبعضهم لا يزال مصير أحبّته مجهولًا  جعلتني أكثر إيمانًا بأهمية العمل الجماعي في التقصي وجمع وتوثيق القصص الشخصية، وخلق سرديات تعكس تجربة السوريين تحت حكم عائلة الأسد، وفي المنفى لاحقًا.

            أما بعد السقوط المفاجئ والسريع للأسد، فقد بات العمل على الذاكرة الجمعية ضرورة مُلحّة، في محاولة لفهم هويتنا كمجموعة، والسعي نحو إعادة صياغة هوية جمعية تعبّر عنّا كسوريين، وتؤسس لعدالة انتقالية مستقبلية.

            “الذاكرة هي صراع على القوة، وعلى من يقرّر مصير المستقبل. ما تختار المجتمعات أن تتذكره أو تنساه، يحدّد بشكل كبير خياراتها المقبلة.”
            هكذا يطرح كتاب الذاكرة السياسية مفهوم الذاكرة والعدالة الانتقالية في سياق ما بعد الاستبداد أو الصراع، مؤكدًا على ضرورة ابتكار أدوات محلية ووطنية لنقل الذاكرة، باعتبارها إحدى وسائل التعافي من الصدمات التي خلّفتها انتهاكات حقوق الإنسان، من خلال إعطاء صوت لمن همّشتهم السلطة.

            حين قدمت إلى أوروبا لدراسة الماجستير في الأنثروبولوجيا الثقافية، كنت أطمح إلى التعمق في دراسة مفاهيم الذاكرة، والتناسي، والتعافي الجمعي داخل الشتات السوري. لم يخطر ببالي أنني، قبل أن أنهي بحثي، سأكون شاهدة على حدث بحجم هروب الأسد، وسأجد نفسي جزءًا من المرحلة الانتقالية، أو ما يصفه عالم الأنثروبولوجيا فيكتور تيرنر بـ”الفضاء الانتقالي” (liminal space)

            طوّر تيرنر هذا المفهوم لوصف المرحلة الفاصلة في الطقوس والممارسات الثقافية لدى المجتمعات والجماعات، وهي حالة يغادر فيها الفرد أو الجماعة وضعهم القديم، دون أن يكونوا قد بلغوا حالتهم الجديدة بعد. إنها لحظة “ما بين بين”، تُفكك فيها الهويات والهياكل الاجتماعية تمهيدًا لمرحلة إعادة التشكيل.

            ولأنها حالة غير مستقرة، حيث انهارت البُنى القديمة ولم تُبنَ البدائل بعد، فإن إمكانات التحول الجذري هوياتيًا، سياسيًا، واجتماعيًا  تكون في ذروتها. وهذا تمامًا ما نشهده في سوريا الآن بعد رحيل الأسد: نحن نعيش لحظة انتقالية، مفتوحة على احتمالات التغيير، ويمكننا  من خلال جهودنا الفردية والجماعية  أن نعيد تعريف هويتنا كسوريين، ونفكك تلك الهوية المهشّمة التي فرضها النظام طيلة عقود.

            فرض حكم آل الأسد، على مدار عقود، هوية جمعية وحيدة للسوريين، محصورة في علاقة عمودية بين “الشعب” و”القائد”. فالنظام الشمولي الذي أسسه حافظ الأسد ثم رسخه ابنه، جعل من تقديس القائد حجر الأساس في العلاقة بين الدولة والمواطن، حيث لا يُطلب من الفرد سوى الولاء، ويُختزل البلد في شخص الحاكم.

            من خلال سياسات منهجية، سعى حافظ الأسد إلى تفكيك البنى المجتمعية، وتعزيز الشعور بالخوف المتبادل بين المكونات والمناطق، مما يضمن ولاء الأفراد له كأفراد معزولين، لا كمجتمع موحد. ولتعميق الانقسامات، روّج النظام الأب ثم الابن  لسردية أنه “حامي الأقليات”، مستعيرًا بذلك خطاب الاستعمار الفرنسي الذي استخدم الحماية كذريعة لتكريس الهيمنة.

            عبر هذه السياسات، جرى تعميق الانتماءات المناطقية والطائفية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وتهميش مدن ومحافظات بكاملها لصالح تعزيز مركزية السلطة في دمشق. وتزامن ذلك مع فرض سردية رسمية واحدة، تمنع أي نقاش أو توثيق للانتهاكات، من مجزرة حماة عام 1982، إلى جرائم النظام بعد الثورة في عام 2011، وصولًا إلى ما ارتُكب في أقبية السجون مثل صيدنايا وتدمر السجن الذي دمّرته داعش عام 2015، مما أدى إلى خسارة قسم كبير من الوثائق والأدلة على الجرائم المرتكبة هناك.

            في هذا السياق، يشير ديرالد وينغ سو، في كتابه الحديث عن العرق ومؤامرة الصمت: فهم وتسهيل الحوارات الصعبة حول العرق، إلى أن الرقابة الثقافية والموضوعات المُسكَت عنها غالبًا ما تكون متجذّرة في عمق الثقافة، ومدعومة بالرقابة الذاتية. وهذا بالضبط ما حدث في سوريا، حيث فرض النظام الرسمي التناسي، وعزّزه الخوف والصدمات وغياب المساحات الآمنة للسرد والتوثيق.

            نتيجة لذلك، بات السوريون يملكون ذاكرة مجزأة، محصورة ضمن جماعات خاضت تجارب مختلفة ضمن سياقات جغرافية وسياسية متباينة، بفعل سياسة التقسيم والتفكيك التي اتبعها النظام. وغالبًا ما فضّلت هذه الجماعات الصمت، إما حمايةً للذات أو لغياب القدرة على التعبير، وهو ما أدى إلى شلل في بناء ذاكرة جمعية، وإلى غياب التضامن والعدالة المتبادلة.

            تحت هذه الظروف، تحوّلت الهوية السورية إلى انتماء قسري، هش ومفكك، تغذّيه الخوف والتهديد، وتفتقر إلى رؤية وطنية جامعة تقوم على المواطنة. ومن هنا، تبرز الحاجة المُلحّة إلى إعادة تخيّل الهوية السورية، وبنائها على أسس جديدة تقوم على العدالة، وحقوق الإنسان، وحق الاختلاف.

            إن إنتاج سرديات جديدة، وفتح المجال أمام سرديات بديلة، لا يساهم فقط في فضح فظائع النظام وغيره من الأطراف المتورطة، بل يُشكّل أيضًا خطوة نحو خلق إمكانيات جديدة للانتماء، في لحظة انتقالية قد تتيح إعادة تعريف الذات السورية، خارج إطار السلطة التي صادرتها لعقود.

            تقوم الهوية الجمعية على الانتماء من خلال التجارب المعاشة والتضامن والممارسات والقيم المشتركة بين مجموعة من الافراد، وأشكال هذه الهويات في حالة دائمة من إعادة التعريف، والتأكيد والتفاوض والتفاعل بين أفرادها. بينما توصَف الهوية الوطنية بالانتماء إلى مجتمع سياسي مُتخيل مُتجذر في أصول وثقافة وتاريخ مشتركين ووجود هوية وطنية جامعة مبنية على أسس دينية او عُرقية غالباً ما تؤدي إلى خلق بيئة متطرفة وعنصرية لمجتمعات وهويات أخرى. ومن هنا يمكن لسياسات الذاكرة إما أن تكون شاملة وتتيح تفاعل ذكريات مختلفة مع بعضها أو إقصاء وجود سرديات بديلة للماضي. فالسماح بوجود حوار مع السرديات البديلة من تجارب مختلفة للأفراد في حالات النزاع والحروب وواقعهم المعاش بفترات ما بعد النزاع يساهم في تشكيل آليات أوسع واكثر شمولية للاحتفاء بالذكرى لترسيخ الذاكرة الجمعية من خلال الاحتفالات السنوية والنُصب التذكارية، والرموز والسرديات الرسمية والبديلة.

            الإشكالية في تشكيل هوية جمعية يمكن ان تؤدي إلى خلق هوية قمعية واقصائية للهويات الأخرى البديلة. فمفهوم الهوية هو تحديد ملامح وخصائص الهوية الأخرى المقابلة المختلفة (us vs them)، لهذا مهما حاولنا تشكيل هوية جامعة فسيكون هنالك دائما فئة أو فئات مهمشة ومنسية. وغالبا ما تُستغل الهويات سياسيا لحقن الأفراد بإيديولوجيات معينة، مُتطرفة في اغلب الأحيان. في روندا، فرضت الدولة رواية رسمية لماضيها واستثنت وجود ذاكرة متعددة للإبادة الجماعية عام 1994 وتبايُن فَهم الجماعات الاجتماعية منها والسياسية لأسباب العنف. فهيمنت الرواية الحكومية لطبيعة الفظائع وذكراها من خلال حظر أي روايات مُخالفة بموجب القانون لأن وجود هكذا روايات قد يسبب تعزيز الانقسامات والإنكار للإبادة الجماعية. 

            ولكن في السياق السوري الحالي، هناك حاجة لمحاولة تشكيل هوية جامعة وغير مُفككة كسابقتها تكون مظلة تشمل هويات جمعية محلية متعددة ومبنية على السماح بتشارك جميع الافراد على خلاف خلفياتهم وإشراك الفئات المُهمشة ومحاولة بناء هذه الهوية الجمعية على أسس المواطنة والتفاعل الفعّال الدائم بين الأفراد.

            “كيف لدولة أن تتذكر ماضيها  الذي سيشكل إمكانيات المصالحة وشكل العنف المستقبلي. غالبًا ما تُشكل مشاريع الذاكرة الوطنية سياسات الهوية الجماعية الوطنية، وعمليات العدالة الانتقالية، وإعادة الإعمار بعد الصراع.”

            يشرح دنكان بيل في كتابه الذاكرة والصدمة والسياسة العالمية كيف يمكن للتذكر أن يكون مشروع سياسي واجتماعي وأساسي للمصالحة والتعافي للبلاد في فترات ما بعد الصراع وتخيل مستقبل هذه الشعوب. فالعدالة الانتقالية تُقدم منظوراً اجتماعياً وقانونياً للنظر في الذاكرة كوسيلة لفهم ومعالجة الإرث الجمعي للفظائع. 

            لكن من الضروري تجنب الإفراط في التذكّر حتى لا نبلغ مكاناً يُحلل الأفعال الانتقامية والكراهية. فبينما فعل التذكر حق للضحية للاعتراف وكسب شرعية لتجربتها من أجل الانتقال السلمي والصفح عن الماضي وبين تجاهل ذاكرة الضحايا وفرض التناسي ليصبح فعل التذكر فعل مقاومة ضد النسيان القسري الممارس. أما التناسي البناء (Constructive Forgetting) الذي يهدف لطمس أجزاء من الماضي وعدم التحدث عن الانتهاكات التي جرت للتعجيل من الانتقال السريع يصب في مصلحة الناجين من المحاسبة لا الضحايا مما يمنع من حدوث أي سلم مستدام وانما سلم مؤقت وهش.

            لهذا هناك ضرورة للموازنة ما بين التذكر والتناسي، ما بين قص حكايات الضحايا دون خزل المجتمع لهويتين لا ثالث لهما وهو الضحية والجلاد. فعقدة الناجي أو الضحية قد تؤدي أيضاً للانتقامات والمزيد من العنف والثأر المُبررين. ضرورة خلق مساحة للذاكرة والسرديات التعددية للماضي حتى بتناقضها شرط الا تُلغي واحدة الأخرى يمكنه ان ينقذنا من هذا السيناريو وتجاوز احداث الماضي بوعي جمعي.

            “نفهم الذاكرة كعملية سردية لبناء معانٍ عن الماضي، سعيًا لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.”

            يقول المؤرخ الفرنسي بيير نورا:
            الذاكرة حياة، تحملها مجتمعات حيّة نشأت باسمها. وهي في تطور دائم، مفتوحة على جدلية التذكّر والنسيان، غافلة عن تشوّهاتها المتتالية، عرضة للتلاعب والاستيلاء، وقابلة للخمول الطويل والتجدد دوريًا.”

            بهذا المعنى، فإن الذاكرة ليست مجرد استدعاء للماضي، بل فعل جماعي ثقافي واجتماعي، دائم التحوّل، ويمكن أن يكون عرضة للاستغلال والشرعنة وتثبيت هيمنة السلطات. كما يمكن أن تُمارس عبرها آليات تهميش ممنهجة لسرديات فئات أو مجتمعات معيّنة، لصالح قوى سياسية أو سلطات قائمة، ما يؤدي إلى سلب الضحايا حقهم في امتلاك روايتهم، ويحوّل معاناتهم إلى أدوات تُستخدم لأغراض أخرى، مما يُبقي النزاع والعنف قائمَين ولو بوسائل رمزية.

            لهذا، يصبح من الضروري الاستفادة من تجارب مجتمعات أخرى خرجت من النزاعات، لفهم آليات العدالة الانتقالية التي حاولت أن تُعالج ماضيها بطرق تتناسب مع تعقيداتها الخاصة. فكثير من هذه المجتمعات ما تزال حتى اليوم تواجه تحديات في تحقيق العدالة والسلم الأهلي، وتحاول باستمرار تطوير نماذج تتماشى مع واقعها المتغير.

            في حالة البوسنة والهرسك، على سبيل المثال، أدّت هيمنة خطابات قومية راديكالية، وحصر الهوية الوطنية في دور “الضحية الدينية”، إلى تهميش سرديات جماعات أخرى. مثل هذه الدروس تُحذّر من خطورة بناء سردية واحدة مغلقة، تُقصي الآخرين باسم العدالة.

            بالنسبة لسوريا، فإن الخروج من عقود الاستبداد لا يمر فقط عبر إسقاط النظام، بل عبر تفكيك بنيته الرمزية والمعرفية. لا شك أن نظام الأسد شكّل شكلًا من أشكال الاستعمار الداخلي، وهيمن على الذاكرة، والهوية، وصاغ الحاضر والماضي على مقاس سلطته.

            لهذا، تُصبح إعادة بناء الذاكرة السورية مهمة مركزية في أي مشروع تحرّري. هذه الذاكرة يجب أن تتحرّر من الأجندات والتوجهات الأحادية، وأن تُفسح المجال لسرديات بديلة ومتعددة. فمن دون ذلك، لن نستطيع استعادة الأسس التي هتفت من أجلها الثورة السورية: الحرية والكرامة والعدالة للجميع.

            لقد أتاحت لي رحلتي البحثية لقاء سوريين من مختلف أنحاء البلاد. ومن خلال هذه اللقاءات، أدركت مدى فرادة كل تجربة إنسانية، لكنني في الوقت ذاته شعرت بأن هناك خيطًا رفيعًا يربطنا: تجربة جمعية يصعب رسم ملامحها في ظل القمع والتشظي والانقسام بين سوريي الداخل والمنفى.

            لكل منّا سياقه الخاص، لكن بالجهد الجماعي يمكننا البدء برسم هذه الملامح، وفهم ذواتنا وهوياتنا المشتركة بدقة أكبر. وجودي في برلين، إلى جانب سوريين في المنفى، وحديثنا عن ماضينا، كان فرصة حقيقية لبدء هذه العملية  وإن كانت على نطاق ضيق.

            هذه دعوة مفتوحة لنا جميعًا: أن نكون ناقدين، مشكّكين، نقرأ ماضينا وواقعنا بعين تفكيكية، لا لنحاكمه فقط، بل لنوقف دوامة العنف، ونطوي صفحة من تاريخنا الطويل تحت حكم ديكتاتوري امتد لعقود.

            بما أنني اضطررتُ للتعرف على فظائع نظام الأسد ووحشيته منذ الصِغر، ورغبتي في فهم التجارب التي شكلت تجربة والدي كفرد وعائلتي لمحاولة فهم نفسي والتطور كفرد، وبما أنني فقدت فرصتي في معرفة التاريخ الذي أحمله معي، هناك كم من الأفراد الذين مازالوا يبحثون عن مصير أحبابهم الذين فُقدوا على يد نظام الأسد والأطراف أخرى ويعيشون واقع مختلف وخاص جداً ولهم الحق والأولوية بمعرفة مصير أحبتهم ومحاسبة الفاعلين.

            حين وجدت اسم والدي في كتاب قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا، لم يكن ذلك مجرد لحظة شخصية عابرة، بل مفتاحًا لقراءة أكبر: عن كيف تُمحى النضالات، وتُنسى التضحيات، وتُغيب التجارب التي صمدت رغم كل أشكال القمع. كان هذا الكتاب، بما يحتويه من توثيق لتجربة سياسية نضالية تم إسكاتها، دليلاً ملموسًا على أن سردياتنا  كأبناء وأحفاد مناضلين  لا تزال موجودة، لكنها مهددة بالتلاشي أو التزوير ما لم نكتبها بأنفسنا.

            في ظل الفضاء الانتقالي الذي نعيشه كسوريين اليوم  لحظة “ما بين بين” كما وصفها فيكتور تيرنر  يصبح توثيق هذه التجارب أكثر من مجرد وفاء للماضي، بل هو فعل مقاومة في الحاضر، ومساهمة في إعادة تشكيل المستقبل. ففي هذا الفراغ بين نظام قد سقط ولم يتبلور بديله بعد، يمكن لإعادة كتابة الذاكرة من مواقع المغلوبين أن تساهم في بناء سردية أكثر عدلاً، وأكثر صدقًا مع ما عشناه فعليًا.

            الكتابة عن تجربة سياسية نضالية مهزومة بالقمع، كما يقول الاقتباس في مقدمة الكتاب، هي مساهمة في حمايتها من الضياع أولًا، ومن التشويه الذي تمارسه آلة ضخمة من الإنتاج الخطابي والرمزي، لا تُبقي من التاريخ سوى ما تراه “العين الغالبة” جديرًا بالبقاء. أما رواية المغلوبين، فسرعان ما تُدفع نحو العدم.

            من هنا، تأتي أهمية أن يتولى هؤلاء “المغلوبون” أيضًا سلطة السرد، وأن يُروى التاريخ من موقعهم، وبعيونهم. ليس فقط لرد الاعتبار لهم، بل أيضًا لمنح الأجيال القادمة فرصة لفهم ماضيهم بشروطه، وتَمثل دروسه، وتجنّب أخطائه التي دُفع ثمنها غاليًا.

            أن نكتب، إذًا، هو أن نحتفظ بما أراد له القامعون أن يُنسى.
            وأن نُراكم هذه السرديات هو ما يجعل الأمل  لا فقط بالمستقبل بل بعدالة الذاكرة، ممكنًا.


             1- Taylor, V., and Whittier, N.E. (1992) Collective identity in social movement communities: Lesbian feminist mobilization. In: Morris, A., and Mueller, C. (eds), Frontiers of Social Movement Theory. Yale University Press, New Haven, CT.

            2- Schmidtke, Oliver. 2023. Competing Historical Narratives: Memory Politics, Identity, and Democracy in Germany and Poland. Social Sciences 12: 391. https://doi.org/10.3390/socsci12070391

            3-Johanna Mannergren, Annika Björkdahl, Susanne Buckley-Zistel, Stefanie Kappler, and Timothy Williams – 9781526178329 Downloaded from manchesterhive.com at 05/19/2025 11:00:01AM

            via Open Access. CC BY-NC-ND https://creativecommons.org/licenses/by-nc-nd/4.0/

            4- Johanna Mannergren, Annika Björkdahl, Susanne Buckley-Zistel, Stefanie Kappler, and Timothy Williams – 9781526178329Downloaded from manchesterhive.com at 05/19/2025 11:00:01AMvia Open Access. CC BY-NC-ND https://creativecommons.org/licenses/by-nc-nd/4.0/

            5-Olivera, Rachel & Ubach, Teresa & Piper, Isabel. (2023). The Collective Memory of Literacy as a Place of Agency to Rethink being a Woman in the Cuban Revolution. 11. 

            6- Rawski, Tomasz. “The Persistence of National Victimhood: Bosniak Post-War Memory Politics of the Srebrenica Mass Killings.” Sprawy Narodowościowe. Seria nowa, no. 53, 2021, https://doi.org/10.11649/sn.2503

          2. من تقديس الأسد إلى تقديس السلطة

            من تقديس الأسد إلى تقديس السلطة

            خلال عملي كمدرّسة للتربية الرياضية في إحدى المدارس الحكومية، طُلب منا تدريب التلاميذ على أداء فقرات استعراضية ضمن احتفالات تنسيبهم إلى منظمة طلائع البعث. لم تكن هذه الفقرات مجرد أنشطة مدرسية عادية، بل كانت جزءًا من عملية منهجية تهدف إلى غرس الولاء في نفوس الأطفال منذ سن مبكرة، عبر ترديد الأغاني والشعارات الوطنية التي كانت في جوهرها تمجيدًا لشخص الرئيس لا للوطن.

            كنت أراقب تلك المشاهد بعين قلقة. الأطفال كانوا يشاركون بفرح تلقائي، يلوّحون ويهتفون وهم يرقصون بحماسة. لكن خلف هذه البراءة، كنت أرى كيف يُعاد إنتاج الولاء، كيف يُساق جيلٌ كامل إلى تبنّي رموز دون أن يُمنح فرصة السؤال عن معناها. كان ذلك الشعور بالغصة هو ما دفعني، لاحقًا، إلى عدم تجديد عقدي في التدريس. لم أعد أحتمل أن أكون جزءًا من منظومة تُكرّس التبعية في ذهن طفل لم يبدأ بعد بطرح أسئلته الكبرى.

            السلطة والثقافة المتأصلة

            لم يكن تمجيد الحاكم في سوريا مجرد أداة سياسية عابرة، بل تحوّل على مدى عقود إلى نمط ثقافي عميق، تم ترسيخه في وعي الأفراد منذ حكم حافظ الأسد، وتضاعف حضوره مع بشار. هذه الظاهرة لم تقتصر على مؤسسات الدولة، بل تمددت إلى تفاصيل الحياة اليومية، حتى بات حب “الرئيس” يُعرض كمرادف لحب الوطن، في سردية أُنتجت عبر الإعلام، والمناهج، والشعارات.

            لكن ما بدا لسنوات وكأنه ولاء طوعي، كان في كثير من الأحيان نتاجًا لحالة مركّبة من الخوف والتعوّد وانعدام البدائل. فعلى مدى أكثر من خمسين عامًا، تماهت صورة الدولة مع صورة الرئيس. الشعارات مثل “الأسد أو لا أحد” أو “الله، سورية، بشار وبس” لم تكن مجرد هتافات، بل تعبيرًا عن حالة ذهنية أُنتجت ببطء، واستقرت في وعي شرائح مختلفة من المجتمع.

            ما يُثير القلق اليوم هو أن هذه البنية الذهنية لم تتفكك بعد، رغم كل ما شهدته البلاد. حتى بعد الثورة، وحتى مع تراجع رمزية الأسد، بقيت الحاجة إلى “قائد” تتكرر بصور مختلفة. وربما كان هذا التكرار دليلاً على أن المشكلة لم تكن فقط في شخص الرئيس، بل في نموذج السلطة الذي ترسّخ، وفي استعداد جزء من المجتمع، بفعل التراكم، لتقبل فكرة الزعيم كضامنٍ للنجاة، لا كموظف خاضع للمساءلة.

            هنا، قد يبدو الحكم قاسيًا إن فُصل عن سياقه. فالمجتمع السوري، مثل كثير من المجتمعات التي عاشت طويلاً تحت الاستبداد، لم تتح له فرصة واسعة لتجربة أنماط أخرى من السلطة. ومن الظلم اختزال تفاعلاته في صيغة واحدة، أو التحدث عنه ككتلة متجانسة. لكن من المهم التوقف عند هذه المؤشرات، لا لإدانة الناس، بل لفهم ما ورثوه، وما قد يكون مطلوبًا لتجاوزه.

            بعد الثورة لم يسقط التقديس، بل أُعيد إنتاجه

            حين اندلعت الثورة السورية، حمل كثير من السوريين آمالًا واسعة بتفكيك منظومة الاستبداد التي تجذّرت لعقود. بدا، في لحظات كثيرة، أن زمن الزعيم الفرد قد ولّى، وأن الناس على وشك إعادة تعريف علاقتهم بالسلطة والدولة. لكن الواقع سرعان ما كشف عن تعقيدات أعمق: لم يكن الاستبداد مجرّد بنية أمنية، بل ثقافة راسخة يصعب اقتلاعها بين عشية وضحاها.

            في مراحل لاحقة من الثورة، ظهرت مؤشرات على إعادة إنتاج نمط الولاء نفسه، ولكن بأسماء جديدة. ومع تغيّر الشخصيات السياسية، بقيت بعض الجماهير تتعامل مع رموز السلطة الانتقالية أو المعارضة كما لو كانت تجسيدًا لفكرة “المنقذ”، أو “القائد الضرورة”. وقد رُصدت شعارات تمجّد أسماء معينة بنفس اللغة العاطفية التي وُجّهت للأسد سابقًا، في مفارقة بدت صادمة للكثيرين.

            لكن من الضروري ألا يُفهم ذلك كتكرار مباشر للولاء السابق، بل كدلالة على هشاشة البنية السياسية البديلة، وافتقار الناس لمرجعية مؤسساتية واضحة يمكن الاتكاء عليها. فحين يغيب الإطار القانوني والضامن، يُعاد تلقائيًا إحياء الحاجة إلى وجهٍ قويّ يبدو قادرًا على حفظ التوازن، حتى لو مؤقتًا.

            وربما في هذا يكمن جوهر الأزمة: أن السوريين لم يثوروا فقط ضد حاكم مستبد، بل ضد منظومة فكرية تُقدّس السلطة ذاتها. ومع غياب البنية السياسية البديلة، وانعدام الممارسة الديمقراطية التاريخية، ظلّت الحاجة إلى “زعيم” أقوى من فكرة الدولة، وأقرب إلى فكرة الأمان.

            من هنا، يمكن فهم هذا الميل لا كخيانة لقيم الثورة، بل كنتيجة لفراغ سياسي ونفسي هائل، ترك ملايين الناس في مواجهة سؤال معقّد: إذا لم يكن الأسد، فمن؟ وإذا لم تكن الدولة، فبماذا نستعيض عنها؟ وحتى اليوم، لم تُحسم الإجابة.

            الإعلام والسيطرة على العقول

            لم يكن الإعلام السوري مجرّد وسيلة إخبارية، بل أداة أساسية لصياغة الوعي الجمعي، وإعادة إنتاج علاقة الناس بالسلطة. فبدلاً من أن يكون فضاءً للحوار أو المساءلة، تم تحويله إلى منبر يروّج لفكرة الزعيم كركيزة لا غنى عنها لاستقرار البلاد.

            لسنوات، ظل التلفزيون الرسمي، والصحف، وحتى المناهج التعليمية، تكرّس صورة الأسد كحامٍ أوحد للوطن. لم يكن ذلك يتم عبر تمجيد مباشر فحسب، بل من خلال إلغاء البدائل تمامًا. لم يُترك للمجتمع مجال لتخيل أن سوريا يمكن أن تُدار خارج ظلال هذا الرجل، وكأن سقوطه يعني بالضرورة انهيار الدولة.

            وعندما اندلعت الثورة، استمر هذا النمط، لكن بخطاب أكثر شراسة. لم يناقش الإعلام أسباب الحراك أو مطالب الناس، بل أعاد تدوير الفكرة المركزية: “لا بديل عن الزعيم”، وكل معارضة تُختزل في صورة الفوضى. هذه السردية، التي أعيد ضخّها عبر الشاشات والندوات، ساهمت في خلق مناخ من الخوف والارتباك، وساهمت في إطالة عمر المأساة.

            لكن اللافت أن هذا النمط الإعلامي لم يتوقف تمامًا مع تغير الوجوه. ففي بعض المنصات البديلة التي نشأت بعد الثورة، ظهر خطاب يكرر نفس البنية الذهنية: ربط مصير الجماعة بشخص واحد، والاكتفاء بتبديل الاسم دون مناقشة شكل النظام. وهكذا ظل الجدل محصورًا في “من هو القائد؟”، بدل أن ينفتح على سؤال أعمق: “كيف تُبنى سلطة مسؤولة؟”.

            ما كشفته التجربة الإعلامية خلال الثورة وما بعدها، هو أن التحكم بالعقول لا يحتاج بالضرورة إلى رقابة صارمة أو أجهزة أمن، بل يكفيه خطاب مشحون بالعاطفة، يعيد صياغة الولاء على نحو ناعم، لكنه لا يقل إحكامًا. في بيئة تعاني من القلق، والفراغ، والدمار، يصبح الصوت الأعلى هو ذلك الذي يعد بالنجاة، لا بالحرية.

            لماذا استمر التقديس رغم سقوط الأسد؟

            قد يبدو غريبًا، للوهلة الأولى، أن تستمر بعض أنماط الولاء السلطوي حتى بعد انهيار النظام القديم أو تراجع رمزيته. لكن حين نتأمل السياق السوري بعمق، نكتشف أن التقديس لم يكن دائمًا نابعًا من الإيمان بشخص الحاكم، بقدر ما كان رد فعل على غياب بدائل مألوفة، ونتاجًا لتاريخ طويل من انعدام الممارسة السياسية الحرة.

            فبعد عقود من الحكم الاستبدادي، لم يتشكل في الوعي السوري نموذج واضح للدولة القائمة على المؤسسات. لم يعرف الناس تداولًا فعليًا للسلطة، أو استقلالًا للسلطات، أو ثقافة سياسية تشجّع على النقد والمساءلة. لهذا، عندما غاب الأسد، لم يتراجع الجميع باتجاه مشروع ديمقراطي متماسك، بل وجد كثيرون أنفسهم في فراغ سياسي ونفسي مربك، فاستعادوا — عن وعي أو لا وعي — النموذج القديم، ولكن بوجوه جديدة.

            كان السؤال الذي فرض نفسه في تلك اللحظة الحرجة: “من سيملأ هذا الفراغ؟”، لا “كيف نمنع تكرار الاستبداد؟”. فحيث يغيب الأمان، تظهر الحاجة إلى سلطة قادرة، حتى وإن تكررت عبرها أخطاء الماضي. وهذا ما ساهم في استمرار التقديس، ليس على شكل طاعة إجبارية دائمًا، بل أحيانًا كحالة دفاعية تبحث عن الاستقرار، ولو في صورة وهمية منه.

            لكن يجب الحذر من التسرّع في الحكم على هذا التكرار وكأنه نكوص جماعي أو إخفاق شعبي. فجزء كبير منه كان نتاجًا مباشرًا لمنظومة قمعية عملت لعقود على تجفيف منابع الوعي السياسي النقدي، وتفكيك أي إمكانية لقيام مؤسسات مستقلة. وإذا بدا أن الناس قد كرروا خطأهم، فإن السؤال الأهم ليس “لماذا فعلوا؟”، بل “من وفّر لهم البديل؟”.

            ما حدث، إذن، لم يكن خيانة لفكرة الثورة، بل نتيجة منطقية للفراغ الذي خلّفه النظام، حين لم يسمح لغيره أن ينمو.

            ما الذي يجعل المجتمع مهيّأً لإعادة إنتاج الاستبداد؟

            غالبًا ما يُعزى استمرار الاستبداد إلى سطوة القمع، لكن التجربة السورية تُظهر أن السلطة القمعية لا تصمد وحدها دون بيئة تمهّد لها، أو على الأقل تتعايش معها. هذه البيئة لا تُبنى في لحظة، بل عبر تراكم طويل، تُشارك فيه مؤسسات التعليم، والإعلام، والخطاب العام، ويُعاد ترسيخه باستمرار.

            في الحالة السورية، ساهم التعليم الموجّه في تشكيل أجيال تلقت المعرفة على هيئة حقائق غير قابلة للنقاش. لم يكن التاريخ سردًا متعدد الأصوات، بل رواية رسمية تُحدِّد من هو البطل ومن هو الخائن. التفكير النقدي لم يكن مهارة مطلوبة، بل خطرًا محتملاً.

            غياب التعددية الحقيقية كذلك لعب دورًا حاسمًا. لعقود، لم تشهد البلاد تداولًا فعليًا للسلطة، ولا أحزابًا مستقلة تمثل توجهات شعبية متنوعة. وهكذا، تَشكّل وعي سياسي هش، يرى في الحاكم ضرورة لضبط الفوضى، لا موظفًا خاضعًا للمحاسبة.

            ثم جاء الخوف، ليس فقط من النظام، بل من المجهول. الثورة نفسها، رغم زخمها، ترافقت مع انهيار أمني وخدمي واسع، أظهر هشاشة البنية العامة للدولة. في ظل ذلك، راجت سردية أن “الاستبداد سيئ، لكن الفوضى أسوأ”، وعلّقت فئات عديدة آمالها على القائد القوي، لا على النظام العادل.

            لكن هذا لا يعني أن المجتمع السوري بطبيعته قابل للاستبداد أو متصالح معه. إنما يشير إلى أن النظم القمعية حين تُطيل مكوثها، تخلق حولها بيئة نفسية وثقافية تُحاكي منطقها. والمطلوب لفهم هذه الظاهرة ليس فقط توجيه النقد، بل تفكيك البنى التي أنتجتها، وطرح نماذج بديلة تُخاطب الناس من موقع تجربتهم لا من فوقها.

            متى يتحرر السوريون من عبادة الحاكم؟

            بعد أكثر من خمسة عشر عامًا على اندلاع الثورة، لا تزال سوريا معلّقة بين ماضٍ استبدادي ثقيل، ومستقبل لم تتضح ملامحه بالكامل. السؤال اليوم لم يعد يتعلق فقط بمن يجلس على كرسي الحكم، بل بنمط التفكير الذي يجعل الكرسي نفسه مركز السلطة، لا القانون ولا المؤسسات.

            التحرر من تقديس الحاكم لا يبدأ بسقوطه، بل بتفكيك البنية الثقافية والسياسية التي جعلت من الزعيم قدرًا، ومن تغييره مخاطرة. وهذا طريق طويل، لا يُختصر في شعار ولا يُفرض من الخارج، بل يُبنى داخليًا: عبر تربية جيل جديد يفكر بحرية، وتعليم يعيد الاعتبار للأسئلة، وإعلام يطرح البدائل لا يكتفي بتكرار الوجوه.

            ربما لم يكن الاستبداد في سوريا مجرد حادث سياسي، بل نتيجة منظومة متكاملة اشتغلت على تشكيل الوعي، حتى بات الخلاص يتخذ شكل شخص، لا مؤسسة. من هنا، فإن التغيير الحقيقي لن يكتمل بإزاحة رأس السلطة فقط، بل حين تتحوّل الدولة إلى فضاء مشترك، تحكمه القوانين لا الولاءات، ويتساوى فيه الجميع أمام المسؤولية والحق.

            ولعل التحدي الأكبر اليوم لا يكمن فقط في إسقاط الطاغية، بل في مقاومة الحاجة النفسية لإيجاد “طاغية بديل” يطمئن الخائفين. فكلما أُزيل زعيم وبحثنا عن آخر يشبهه، نكون قد أخطأنا الهدف.

            لكي ينهض السوريون من تحت ركام الحرب والخوف، لا بد أن يتحرروا من عبودية الشكل، ويعيدوا بناء وطن يُدار بالعقل لا بالهتاف، بالمؤسسات لا بالأفراد، بالثقة لا بالذعر. عندها فقط يمكن القول إن الثورة لم تكن مجرد احتجاج، بل بداية لولادة جديدة.

          3. المجموعة الوظيفيّة

            المجموعة الوظيفيّة

            في دولة يُفترض أن تكون ذات سيادة، يتفق الجميع نظريًا على ضرورة صونها، تبرز من جديد المطالبات بإقامة دولة مدنية وعلمانية، بالتزامن مع احتفاء بعض القوى بما تُعدّه انتصارًا إسلاميًا، وذلك في أعقاب ثورة سلمية تحوّلت إلى واحدة من أكثر الحروب الأهلية عنفًا وطولًا في المنطقة. وقد شهدت تلك الحرب إقصاء قوى مدعومة من إيران وروسيا على يد أطراف مدعومة من تركيا وحلف شمال الأطلسي، بينما توسّع إسرائيل بهدوء مواقعها الاستراتيجية، وتعمل على تحييد ما تبقى من قدرات، في حين تلوّح الولايات المتحدة بالانسحاب من شرق الفرات، وتستمر روسيا في التفاوض بشأن قواعدها. أما على الأرض، فترتفع وتيرة العنف المتقطع الذي يوقظ خلايا نائمة تنتمي إلى جهات متباينة.

            في ظل هذا المشهد المعقّد، تعود إلى السطح قضايا ونقاشات مألوفة، طالما تم تأجيلها أو إسكاتها، بعضها يمتد إلى قرون، لكنها تتجدد اليوم بلغة جديدة، تتخللها مفردات مثل “الديمقراطية” و”العلمانية”، وتتداخل مع التساؤلات المزمنة حول مشروعية الفئة الحاكمة، وما يتفرع عنها من إشكالات تتصل بمفاهيم الأكثرية والأقليات.

            مفهوم الدولة:

            يصعب الادعاء بأن دولة حقيقية قد قامت فعليًا في هذا المكان، والمقصود هنا المنطقة الجغرافية الواقعة بين إيران الكبرى وتركيا الكبرى ومصر. فقد ظل هذا الحيّز التاريخي في الغالب، إما تابعًا لإمبراطوريات مجاورة أو ملحقًا بسلطات خارجية أبعد، وحتى حين كانت بعض العواصم الاسمية لتلك الإمبراطوريات تقع ضمن حدوده، فإنها كثيرًا ما مثّلت محاولات للاستفادة من إرث إدارات محلية متبقية من إمبراطوريات سابقة آيلة إلى الزوال، كما في حالة الأمويين الذين ورثوا بعض أدوات الحكم البيزنطي، أو العباسيين الذين استندوا إلى البنية الفارسية.

            من السمات اللافتة لهذه المنطقة ما يمكن تسميته بـ”المجموعة الوظيفية”، وهي فئة تختارها السلطة الإمبراطورية بعناية لتكون أداة للحكم أو القوة العسكرية، غالبًا ما تُنتقى من شريحة اجتماعية محددة تضمن نوعًا من القبول المحلي الأدنى، وتُستخدم لضبط بقية المجتمع. لم تكن هذه المجموعات طوائف بالمعنى الروحي أو الديني بالضرورة، بل وحدات اجتماعية أو عشائرية أو مناطقية ذات طابع شبه مغلق.

            فمثلًا، في فترات ازدهار تدمر، لعب مقاتلو عشائر البادية أدوارًا عسكرية لصالح السلطة التجارية، وفي عصر الفتوحات الإسلامية مثّل مقاتلو الجزيرة العربية القوة الضاربة في تأسيس الدولة الأموية، ثم حلّ محلهم مقاتلو خراسان وإيران في الدولة العباسية. وبمرور الزمن، تكرّرت هذه الصيغة بوجوه متعددة، خاصة في عصور الصراع الصليبي، وحتى ضمن الإمبراطوريات التي تبنّت تقنيات تجنيد المقاتلين المفصولين عن المجتمع، لضمان ولائهم وقابليتهم للاستعمال.

            وقد شكّلت الإمبراطورية العثمانية نموذجًا واضحًا لهذه السياسة، إذ طورت منظومة عسكرية خاصة بها (الانكشارية)، وهي فئة مُجنّدة وفق نظام قسري من أبناء أقليات أو مجموعات “غريبة” عن النسيج المحلي، خضعت لتأهيل عسكري وثقافي صارم. ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الفئة لم تكن تعبّر عن خلفية دينية أو قومية واحدة بقدر ما كانت كيانًا وظيفيًا صرفًا، وإن حُمّلت لاحقًا بصفات طائفية أو عرقية.

            مع أفول العثمانيين، بدأت هذه المقاربة تفقد تماسكها، وتحولت إلى ممارسات محلية تقوم بها سلطات ضعيفة تحاول تقليد نموذج الطائفة العسكرية أو الأخوية القتالية، باستمرار الاعتماد على “الغريب”، سواء من خارج المكان أو من جماعات هامشية داخله.

            إلا أن النقلة النوعية في هذا الاستخدام وقعت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، حيث اتجهت السلطة العثمانية إلى استثمار الفئات المحلية ذات الخصوصية الاجتماعية أو الإثنية، ليس فقط بوصفها أدوات للضبط، بل كعنصر من عناصر التماسك الإمبراطوري الداخلي في مواجهة التفكك. من أبرز هذه التجارب ما تم مع مجموعات من سكان المناطق الشرقية للأناضول، والتي ستُعرف لاحقًا تحت المسمّى الإثني “الكردي”. هذه الفئة العشائرية المتمايزة لم تكن تركية ولا عربية ولا فارسية، وقد أسند إليها دور عسكري مهم في وحدات الفرسان الحميدية، التي وُجهت في فترات متعددة لمواجهة فئات أخرى كالأرمن.

            وقبل ذلك، كانت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية، في إطار نفوذهما المتزايد على الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، قد استعملتا أنماطًا مماثلة من المجموعات الوظيفية. على سبيل المثال، استعانت بريطانيا بالطائفة الدرزية كقوة فاعلة في ضبط مناطق معينة في شرق المتوسط، في حين لجأت فرنسا إلى دعم الموارنة في المقابل، ما أدى إلى توترات بلغت ذروتها في أحداث دمشق عام 1860، والتي تُفهم على نحو أدق ضمن سياق صراع مجموعات وظيفية مرتبطة بقوى خارجية أكثر منها طوائف محلية متصارعة على أساس ديني صرف.

            لاحقًا، ومع تقاسم القوى الأوروبية للأقاليم التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية المنهارة، اتجهت فرنسا إلى تكرار النمط ذاته في إدارة مستعمراتها الجديدة في المشرق. وقد تم توظيف مجموعات محلية معينة كوحدات وظيفية جديدة تتولى مهام الضبط والسيطرة، وذلك بما يخدم البنية الاستعمارية الناشئة.

            في هذا السياق، جرى التركيز على الفئة التي ستُعرف لاحقًا باسم “العلويين”، وتحديدًا أولئك المقيمين في جبال الساحل السوري. وقد شُكّلت من هذه الفئة نواة للجيش المحلي المرتقب، وهو قرار لا يمكن فصله عن السياقات الدولية والإدارية التي فرضها الانتداب الفرنسي. وإلى جانب هذه النواة، جرى الاعتماد بشكل ثانوي على عشائر الفرات، الذين أظهروا تاريخيًا نزوعًا للاستقلال الذاتي ورفض الخضوع للسلطات المركزية. وقد أُنشئت من بعض هذه العشائر قوات محلية، قلّما تُذكر في الأدبيات العامة، لكنها أدت أدوارًا أمنية في مناطق مثل لواء الزور والبادية السورية.

            كانت هذه المجموعات الوظيفية، في جوهرها، بمثابة خزان بشري لتأمين قوى ضاربة على الأرض، دون أن تُشكّل تمثيلًا حقيقيًا لعمقها الاجتماعي أو الثقافي. إذ غالبًا ما جرى فصل هذه الوحدات المقاتلة عن بيئتها، لتتحوّل إلى أدوات للضبط لا تفرّق بين الخصوم، بما في ذلك جمهورها المفترض. ومع الوقت، بدأ الالتباس يتصاعد بين مفهوم “المجموعة الوظيفية” والمفاهيم الطائفية أو الهوياتية، وهو التباس غذّته سياسات التمييز والفرز الإداري المستمرة.

            عمومًا، جاءت هذه الجماعات من مناطق مهمّشة اقتصاديًا، أو ذات طابع جغرافي قاسٍ لا يوفر مقومات كافية لحياة مستقرة، أو أن تاريخها المديد طبعها بنزعة إلى القتال أكثر من الإنتاج الزراعي أو الصناعي. ومن هذا الواقع، تشكّلت قاعدة عسكرية جاهزة نسبياً للاستعمال، تختلف فعاليتها بحسب اللحظة السياسية وموقعها في الخارطة الإقليمية.

            في المقابل، فإن ما يُشار إليه اليوم بوصفه “الأكثرية” كان يتكوّن من الفئات السكانية العاملة في القرى والمدن، والتي انخرطت باستمرار في أنشطة إنتاجية وفّرت لها حداً من الاستقرار. كثير من هؤلاء ينحدرون من خلفيات اجتماعية متداخلة، ما يضعنا أمام نسيج اجتماعي معقّد، تحكمه الحاجة إلى التمييز وإعادة رسم الحدود الرمزية، في مشهد يبدو في جوهره مركبًا ومختلطًا، رغم محاولات الفرز المستمر.

            وباختصار، فإن النتيجة المتكررة في هذا السياق هي غياب الدولة ككيان سيادي حقيقي، وحلول سلطات محلية مكانها، غالبًا ما كانت أدوات بيد قوى إقليمية أو دولية، تتبدل بحسب تغير موازين القوى وأداء الفاعلين المحليين.

            وفي العقود الأخيرة، بدأت هذه الآلية تشهد تعديلات وتفرعات جديدة نتيجة تصاعد تعقيدات المشهد السياسي، وصولًا إلى اللحظة الراهنة التي جرى توصيفها في مقدمة النص.

            التطبيق الأول لهذه الآلية:

            مع تصاعد التحولات الميدانية والسياسية، أمكن ملاحظة نمط متكرر في إدارة النفوذ عبر تفكيك المجموعات الوظيفية المرتبطة بالسلطات السابقة، سواء بطرد القوى الخارجية التي كانت تستند إليها، أو بعزل القوى المحلية ضمن نطاقات جغرافية محددة. من أمثلة ذلك إخراج المقاتلين الأجانب، وعزل القوى العسكرية ذات الطابع الطائفي في مناطقها التقليدية — كالمجموعات المرتبطة بالطائفة العلوية وبعض المكوّنات المسيحية — مع الحد من إمكانيات إعادة توظيف بعض التشكيلات الكردية التي بُنيت على أسس حديثة، مثل “قسد”، والتي وإن كانت توصف بأنها تمثل المكون الكردي، فإن تكوينها وتنظيمها يجعلها أقرب إلى مجموعة وظيفية قائمة بحد ذاتها، منفصلة جزئياً حتى عن الطيف الكردي الأوسع.

            بالتوازي، ظهرت محاولة جديدة لتشكيل مجموعة وظيفية بديلة، تتميز عن بقية السكان، سواء من حيث العزلة الجغرافية أو التكوين الأيديولوجي. وقد تجسدت هذه التجربة في ما بات يعرف بـ”إقليم إدلب”، الذي تحوّل إلى فضاء خاص لتشكيل دورة حياة جديدة لشريحة من الشباب، خضعت لتدريب عسكري وإداري وعقائدي مكثف، في ظل حاضنة أمنية مشددة. هذه الشريحة اعتُمدت اليوم كأداة للقوى الناشئة في المنطقة، رغم الفارق الكبير بينها وبين مكونات المجتمع المحلي التقليدية، سواء من حيث الرؤية أو الانتماء أو وسائل العمل.

            التطبيق الثاني:

            أما التطبيق الثاني، فيتعلق بشكل مباشر بتبرير استمرار السلطة في غياب الدولة. وهو تناقض جرى تجاوزه تاريخياً عبر الإشارة إلى “العدو”، سواء أكان فعليًا أم متخيّلًا، بوصفه عاملاً جامعًا يبرر استمرار الحكم القائم. في التجارب السابقة، لعبت إسرائيل هذا الدور، لكن هذه الصيغة لم تعد فاعلة بنفس الدرجة، لا دوليًا ولا محليًا، ما فرض الحاجة لخلق نموذج جديد.

            السلطة الناشئة اليوم — والتي ما زال يُعرَف منها بالأخص أداتها العسكرية المتمثلة بفصائل جهادية ذات توجهات متشددة — اختيرت بعناية، ليس فقط لتميّزها عن المحيط العام، بل كذلك لتهيئة البيئة الذهنية لظهور عدو جديد، تكون مواجهته مبررًا لاستمرار السلطة وبقائها.
            وبالرغم من محاولات هذه الفصائل تقديم نفسها بصورة مطمئنة، وتبنّي خطاب عام أكثر مرونة، فإن حضورها أثار مخاوف صامتة لدى شرائح اجتماعية واسعة، بما في ذلك فئات غير بعيدة عنها فكريًا. وقد بدأت تظهر مؤشرات انكماش اجتماعي داخل مجتمعات محلية كانت حتى الأمس القريب متداخلة نسبيًا مع هذه التوجهات.

            وهنا، برز ما يشبه الفخ السياسي:
            فبمجرد ترسيخ سلطة هذه القوى، بدأت المطالبة بدولة مدنية وعلمانية تتردد بقوة، مقرونة بأولوية ما يُسمى “حقوق الأقليات”، وهي مطالب مشروعة في حد ذاتها، لكنها جاءت ضمن سياق محمّل بالتوتر والهواجس. وفي المقابل، تبنّت السلطة الجديدة هذه المفردات لتؤكد التزامها — المعلن على الأقل — بحماية حقوق الأقليات، ما ساهم في تثبيت الثنائية: “الأقليات” في مقابل “الأكثرية”، التي رُوّج لها باعتبارها قاعدة الدعم الشعبي للسلطة.

            ومن خلال الربط بين “قسد” كعدو داخلي، والمكوّن الكردي بشكل عام، سواء بقصد أو نتيجة التداخل السياسي والإعلامي، إلى جانب حالة القلق التي اجتاحت كل من ينتمي إلى فئات تعتبر نفسها “أقلوية”، تبلور خطاب يبرر المواجهة القادمة تحت عنوان حماية الوحدة الوطنية ومكافحة النزعات الانفصالية، دون أن يكون هناك توافق حقيقي على مفاهيم الدولة والمواطنة والتمثيل.

            المشهد الذي يرتسم اليوم

            المشهد الحالي، رغم ما يكتنفه من غموض، يحمل ملامح تراكمية لمعادلات لم تكتمل سابقًا، وقد يُفضي إلى استئناف مسارات كانت تُوشك أن تتحوّل إلى حرب أهلية مفتوحة، لكنها لم تنضج تمامًا من حيث وضوح الأطراف وتثبيت التحالفات. المشهد لا ينبئ بعودة الدولة، بل باستمرار نمط السلطة عبر أدوات متجددة، وظيفتها ضبط التوترات وتوجيهها، أكثر من معالجتها أو تجاوزها.

            في جوهر القضية، تبرز مفارقة أساسية:
            مطالب سياسية عامة — مثل “الدولة المدنية” أو “العلمانية” أو “حقوق الأقليات” — تُرفع في وجه كيان لا يحمل مقومات الدولة أصلًا، بل هو سلطة مؤقتة، تشكّلت في ظروف استثنائية، وتستند إلى شرعية مؤجلة، إن لم تكن معدومة.

            هذه المطالب، رغم مشروعية مضامينها من حيث المبدأ، غالبًا ما تُستدعى بطريقة متسرعة، دون تحديد واضح لآليات التنفيذ أو شروط التمثيل. وفي هذا الفراغ، تتحول إلى أدوات لإعادة إنتاج الاستقطاب لا تجاوزه، ويُعاد تقديم السلطة — مرة أخرى — بوصفها الحصن الأخير في وجه الفوضى، أو “العدو الداخلي”.

            ما يجري، في صورة أكثر تركيزًا، هو استمرار نفس الديناميكيات القديمة:
            استثمار الهشاشة السياسية والاجتماعية في تكريس سلطة جديدة، تحمل خصائص السلطة السابقة، وإن اختلفت أدواتها ومستفيدوها. عدو جديد، وشريحة وظيفية جديدة، ومطالب فضفاضة تُستدعى في اللحظة المناسبة، لتكون الغطاء الرمزي اللازم لاستمرار السيطرة، دون المرور عبر مفهوم الدولة الحديثة بما تعنيه من عقد اجتماعي، ومؤسسات، وتمثيل حقيقي.

          4. ‘هلأ مو وقت الثقافة’

            ‘هلأ مو وقت الثقافة’

            في 8 كانون الأول عام 2024، انهار نظام الأسد، تاركًا البلاد بعد ما يقرب من 60 عامًا من الحكم الشمولي. خلال هذه العقود، تدهورت البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالطبع البنية الثقافية أيضاً، إذ أدى القمع الصارم لحرية التعبير والرقابة الشديدة على الإنتاجات الثقافية وإمكانية الوصول إليها والمشاركة فيها، إلى إفقار القطاع الثقافي، مما جعله بوقاً من أبواق النظام و مصدر الدعاية والترويج لإنجازاته، مع بعض الاستثناءات القليلة ضمن مساحات محددة مسبقاً. وعند بدء الثورة السورية في عام 2011، وجدت الساحة الفنية الغنية بالفنانين والّكتاب وصناع الأفلام والموسيقيين، نفسها في مأزق حقيقي إذا توجّب على الفنانين الاختيار، إما أن تخدم خطاب الدعاية للنظام أو تواجه خطر الاختفاء، أو النفي، أو حتى الموت. آثر بعضهم البقاء بينما فرّ آخرون إلى دول أخرى، تاركين المجتمع ومواطنيهم لمواجهة وحشية الحرب الدموية ومواجهين هم تحديات جديدة في المنفى. في هذا المقال، سأتناول العديد من السرديات التي كانت ولا زالت تحدياً للفنانين في سوريا وفي المهجر، وهي تصب في سردية واحدة شاملة يتبناها المجتمع وبعض العاملين في القطاّع الثقافي أيضاً وهي “هلأ مو وقت الثقافة والفنون”


            في البدء، لا بد من الإضاءة على ملازمة كلمتي الثقافة والفنون لبعضهما البعض ضمن الخطاب السائد. فعادةً ما يتم استخدام كلمتي “الثقافة” و”الفن” معاً للإشارة إلى ارتباطهما الوثيق وأن وجودهما معهاً ضرورة حتميّة ضمن نموذج الفاعليّة الثقافية، ولكن هذه العلاقة قد تكون فخاً يعكس الفهم الشائع لكلمة ثقافة بين السوريين. فعند ذكر “الثقافة”، غالباً ما يتبادر إلى الذهن الإنتاج الإبداعي الفني مثل الموسيقى والفنون البصرية وفنون الأداء، أي “الثقافة” بمعناها الضيق. لكن يتم إغفال استخدام “الثقافة” بالمعنى الموّسع، والتي تشمل العادات والتقاليد وأنماط العيش والتراث غير المادي، بل وتمتد إلى معنى العيش نفسه، فإذا كانت الثقافة السائدة في المجتمع هي ثقافة الرأي الواحد والإلغاء العنفي للآخر يتم تجاهل أن هذا السلوك هو جزء من ثقافة المجتمع وبالتالي يتم اختزال معنى الثقافة في التعبير الإبداعي دون النظر إلى الصورة الأشمل، مما يؤدي إلى ترسيخ السردية المذكورة.


            “كيف يمكنك الغناء بينما يموت الناس؟”
            في السنوات الأولى من الثورة السورية، كان يُنظر إلى ممارسة أي نشاط فني أو ثقافي، سواء داخل سوريا أو خارجها، بعين الريبة. ويرجع ذلك إلى السردية الفرعية الأولى “كيف يمكنك الرقص أو الغناء بينما يموت الناس؟” استخدمت القوات السورية أساليب قمع وحشية ضد الحركات المدنية السلمية المطالبة بالحرية والكرامة، وبلغ العنف ذروته عام 2016. خلال تلك السنوات، وجد الفنانون أنفسهم محاصرين في المواضيع وطرق التعبير، إما أن يتحدثوا عن الأحداث الجارية أو يُعتبر فنهم غير ذي صلة. كما أن هذا الخطاب كان شائعًا لأن الفنانين لا يُنظر إليهم كمحترفين في العديد من المجتمعات، بل كأشخاص يمارسون هواية، وليس كأفراد يعتمدون على عملهم كمصدر رزق. وهذا يطرح سؤالًا آخر: كيف يمكن للمرء أن يستمر في ممارسة الفن عندما تكون الحياة بهذا القدر من القسوة؟ تأثّرت بهذا الموقف الفنون الأدائية بشكل خاص مثل الموسيقى والكوميديا الارتجالية والمسرح، حيث تم حظر الحفلات الموسيقية، وتقليص العروض المسرحية، وتعرّض الفنانون في المهجر لضغوط هائلة ومشاعر الذنب وأحيانًا فقدان الإحساس بالقيمة ومسائلة المحتوى وشرعيّة التمويل بالإضافة إلى التهديدات الأمنية ومخاطر الملاحقة لهم أو لعائلاتهم في سوريا. وامتدت هذه السرديّة لتلاحق كل محتوى فني لا يتحدث أو يتحدّث عن الثورة، وتم دعم معظم الإنتاجات الفنية التي تناولت الصراع بشكل مباشر وخاصة الإنتاجات السينمائية، وأصبح المحتوى الفني السوري خلال سنوات الصراع يعتمد على سرديات الحرب، واللجوء، والسجن، والعنف بكل أشكاله، وأجبر على تبني سردية الحياة مقابل الموت لكي لا يضطر لمواجهة السردية العامة والوقوف في وجه الموت من خلال الفن.


            “الفنان بين النظام والمعارضة”
            على عكس الأطباء والمهندسين والمعلمين، كان يتعيّن على الفنانين تحديد موقفهم بوضوح. كان من المتوقّع منهم أن يتخذوا موقفًا ويبرروه أمام جمهورهم، سواء كانوا داعمين للنظام أو معارضين له. أدت هذه السردية إلى استقطاب المجتمعات ودفعها إلى التساؤل حول دور الفنانين، وأخلاقيات الفن في زمن الصراع، ومعنى أن يكون المرء فنانًا ومواطنًا في آن واحد. فهل يمكن للفنان الفصل بين كونه مبدعًا يسعى لكسب رزقه وكونه شخصًا يحمل موقفًا أخلاقيًا ويرفض المشاركة في إنتاجات تدعم النظام؟ كان هذا الصراع أكثر وضوحًا في الدراما التلفزيونية، خاصة بين الممثلين والمخرجين والمنتجين وغيرهم من العاملين في هذا المجال. ويغذي هذا الصراع السردية العامّة لدور الفنون ومنها الفنان في المجتمع، فمع بروز ممثلين معارضين انخرطوا بالعمل السياسي وآخرين مؤيدين للنظام دعموا رموزه وممارساته اصطف المتابعون والمعجبون مع الفنان بناءاً على مواقفه السياسية مع استثناءات وخاصة في السنة الأخيرة قبل سقوط النظام.


            “لا يمكن الاستمتاع بالفن عندما لا يجد الناس طعامًا”
            لطالما ارتبط الفن في الوعي الجمعي بفترات الاستقرار والازدهار والرفاهية. لذلك فإن السردية الفرعية “الناس لا يملكون المال لشراء الخبز، فكيف لهم أن يستمتعوا بالفن؟” شائعة خلال النزاعات. وفي سوريا، وبعد فرض العقوبات الاقتصادية على النظام وحلفائه، وجد معظم السكان أنفسهم تحت خط الفقر، بل وأحياناً كثيرة تحت خط الفقر المدّقع. لكن الربط بين الفقر وعدم القدرة على التمتًع بالإنتاج الفني هو نتيجة لمصادرة النظام الطويلة للحقوق الثقافية، بما في ذلك حق الوصول إلى الثقافة والممارسة الثقافية. كما أن الأشخاص ذوي الاستقرار الاقتصادي الضعيف يُوصمون بعدم التحضر، مما يؤثر أيضًا على رغبتهم في التعبير عن استمتاعهم بالفن أو حتى إنتاجهم له. حتى لو أرادوا ذلك، فإنهم لا يجدون المساحات المناسبة للتعبير. فالمسألة لا تتعلق فقط بالضعف الاقتصادي، بل أيضًا بالتقسيم الطبقي الذي يربط الاستهلاك الثقافي بالثروة. وهذه السرديّة هي بالعمّق ذات مأخذ استعماري يضع الشعوب التي تم استعمارها في مرتبة ثقافية أقل من المستعمر، وقد تم تبنيها عبر السنين من الفئات الاجتماعية الارستقراطية التي تمتلك علاقات متينة مع القوى الاستعمارية التي حكمت المناطق في فترات مختلفة وتمت إعادة إنتاجها مع الوقت مع إضافة ثنائيات صراع أخرى مثل صراع الريف والمدينة و النازحين والساكنين الأصليين والمسلمين وغير المسلمين وغيرها.


            “الفن ليس من الأولويات في ظل الأزمات”
            يستشهد البعض بهرم ماسلو للاحتياجات الأساسية لدعم هذه السردية، حيث تشير هذه النظرية إلى أن البشر يعطون الأولوية للاحتياجات الفيزلوجية مثل تأمين الطعام والماء والمأوى، تليها الحاجة إلى الأمان والاستقرار مثل الاستقرار المالي والصحة، قبل أن يصلوا إلى مستويات أعلى مثل الحب والانتماء وتقدير الذات، ويشمل الأخير تحقيق الذات بمعنى التعبير الثقافي. ومع ذلك، تعرّضت هذه النظرية لانتقادات عديدة، منها أن الاحتياجات لا تتبع ترتيباً صارماً، وأنه من الصعب إثباتها علمياً. رغم ذلك، لا يزال العديد من العاملين في المجال الثقافي يستندون إليها عند مناقشة دور الثقافة في الأزمات.
            وخلال العقد الماضي، ظهرت مفاهيم جديدة مثل الإغاثة الثقافية، والثقافة من أجل التغيير الاجتماعي، والتنمية الثقافية، والمرونة الثقافية، والديمقراطية الثقافية. كما أن تجربة مدارس الموسيقى وصناعة الأفلام لمؤسسّة العمل للأمل هي دليل واقعي على محض ارتباط هذه النظرية برفاه المجتمعات، إذ تعمل المؤسسّة على توفير الوصول للفنون للمجتمعات المهمّشة في بقاع لبنان، والتي يقطنها النازحون السوريون، وقد شارك العديد منهم بالفعاليات الفنية المختلفة وتعلّم العزف على آلات موسيقية مختلفة والقيام بعروض مسرحية وصناعة أفلام قصيرة، مع العلم أن هذه المجتمعات ذات قدرات مادية منخفضة نسبياً وتعاني من عدم الاستقرار المكاني والوجودي، لكنها استطاعت الانخراط بالعمل الفني بظل كل الأزمات والظروف المحيطة بها. بل على العكس استطاع انخراطها ضمن هذه البيئات بدعم مرونتها النفسية وقدرتها على التعبير الذاتي وإيجاد مساحات آمنة تعزز رغبتها بالاستمرار بالحياة والاستمتاع بممارسة الفنون.


            “الفنون، وخاصة الموسيقى، محرمة في الإسلام”
            في الآونة الأخيرة، اكتسبت السردية الفرعية ” الفنون، وخاصة الموسيقى، محرمة في الإسلام” زخماً، مدفوعة بالاتجاهات الإسلامية الراديكالية التي تنبع منها حكومة تسيير الأعمال. وعلى الرغم من أن رئيس الحكومة الانتقالية، أحمد الشرع، يقدم نفسه كقائد معتدل، فإن العديد من ممارسات الحكومة تتماشى مع أيديولوجيا الإسلام السياسي، مما يثير قلق الفئات العلمانية والمكونات المختلفة والإسلام السني المعتدّل. ويرى النقاد أن دمج الخطاب الديني في المؤسسات العامة والتشريعات المستندة إلى الفقه الإسلامي يشير إلى انحراف تدريجي نحو حكم ديني، مما يؤدي إلى قمع التعبير الفني، ليس فقط من منظور نقد النظام السياسي الحاكم وتكريس السلطة الأبوية والعقائدية، بل أيضاً من منظور نقد الممارسات الدينية. ومع أن وجود نص ديني يحرّم الفنون وخاصة الموسيقى هو موضوع يتبع للتأويل لكن جزءاً كبيراً من المجتمع لا يمتلك موقفاً واضحاً من هذه الممارسة وسيتبع الخطاب الحكومي والممارسات التي تليها مهما كانت بدون دفاع حقيقي عن حرية التعبير بالمعنى الموّسع والتي قد تشمل انتقاد الأديان والممارسات الدينية وهو قد يكون الدافع الذي يثير مخاوف المجتمع والسلطة من حرية التعبير.


            هل من الممكن تغيير هذه السردية؟
            في ظل التركيز الحالي على سوريا دولة واحدة قويّة وغير مقسمّة، وإعطاء الأولوية للإصلاحات الأمنية والاقتصادية والسياسية، يبقى دور الثقافة والفنون غير واضح. لكن هذا الغموض يمثل فرصة ذهبية للفنانين والممارسين الثقافيين لإعادة تشكيل السردية عبر تبنّي سردية “الفن كوسيلة لتحقيق العدالة” فالعدالة الانتقالية تُناقش على نطاق واسع في سوريا، مع مطالبة الناس بمحاسبة الجناة، والاعتراف بمعاناة الضحايا، وضمان عدم تكرار الفظائع السابقة. في هذا السياق، يمكن للفنانين أن يلعبوا دورًا حيويًا عبر توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وحفظ الذاكرة الجماعية، وتعزيز الحوار المجتمعي، من خلال توسيع دائرة عملهم والتشبيك وبناء الروابط مع مؤسسات المجتمع المدني، بأطيافها المختلفة من نقابات، واتحادات ومرسسات غير حكومية، ومبادرات وتجمعات أهلية وأية كيانات تساهم في بناء مجتمع أكثر شمولية وإنسانية، يتم استخدام فيه الفن لتعزيز المشاركة المجتمعية في بناء السلم الأهلي والتعايش المشترك.


            الصورة مأخوذة من صفحة الفيس بوك الخاصة بمؤسسة العمل للأمل من برنامج سينما على الطريق تاريخ النشر 11 تموز 2024

          5. كل نظام استبدادي بحاجة إلى بعبع

            كل نظام استبدادي بحاجة إلى بعبع

            في كل سردية سلطوية، هناك دائمًا حاجة لعدو. فالسلطة التي تبني استقرارها على الخوف لا تزدهر إلا بوجود “بعبع” خارجي أو داخلي يبرر القبضة الأمنية ويمنحها شرعية زائفة. في كثير من السياقات الاستبدادية، يصبح الناس أسرى معادلة تبدو محكمة: سلطة تحذرهم من الفوضى، ثم تُنتج هذه الفوضى لتثبت أنها ضرورة.

            ضمن هذا السياق، لعب النظام السوري، منذ بدايات حكم حافظ الأسد، على صناعة هذا العدو المتخيل، مستعملًا الفقر والخوف وسيلة لفرض الطاعة. في قرى الساحل مثلًا، لم يكن الاستثناء عن سائر البلاد في عمق التهميش أو مستوى التنمية. بل كانت هناك منهجية واضحة: إبقاء المجتمعات الفقيرة في حالة عوز دائم، مع تقديم رأس النظام كحامٍ و”منقذ” من خطر دائم، لا يُعرّف لكنه يُلمّح إليه.

            هذا الشكل من السيطرة لم يأت فقط عبر الترويج لأعداء خارجيين أو محليين، بل عبر تفريغ المؤسسات الاجتماعية والدينية من أي استقلالية. شيوخ الطائفة، كما غيرهم من الشخصيات المؤثرة، إما تم استبدالهم بأشخاص موالين، أو جرى تحييدهم بالقمع أو التهديد. وفي الوقت نفسه، كانت السجون تمتلئ بالمثقفين والفقهاء وحتى بعثيين سابقين ممن لم يوافقوا على مسار الأسد الأب، ما أجهز على أي محاولة لبناء خطاب موازٍ أو بديل داخل الدولة أو المجتمع.

            ومنذ ذلك الحين، وُضعت أسس استراتيجية تقوم على تشتيت كل أشكال المقاومة المحتملة، لا بالقوة الأمنية وحدها، بل بزرع الشك والخوف داخل النسيج الاجتماعي نفسه. لم يكن الانقسام محصورًا بين مكونات مختلفة، بل داخل المكون الواحد. ففي حالات عديدة، تم عزل أو تخوين أو نبذ أفراد فقط لأنهم حاولوا تقديم تصور مختلف، حتى لو لم يكن سياسيًا بالمطلق.

            في ظل هذا النظام، لم تكن التجربة اليومية للمواطنين متشابهة، بل كانت متناقضة بشكل يصعب تصديقه. فبينما قد يُعتقل شخص بلا سبب واضح، قد يخرج آخر من أحد أسوأ فروع الأمن دون أن يُمسّ. هذه التفاوتات ليست حالات فردية فقط، بل جزء من سياسة ممنهجة لتفكيك أي إحساس عام بالعدالة أو الاتساق، ولإبقاء الجميع في حالة ترقّب، يشكّون في بعضهم البعض، ولا يثقون حتى في تجربتهم الخاصة.

            كان يمكن لجارك أن يختفي فجأة، بينما تعود والدتك من فرع أمني دون أن تُمسّ. وتُرك المجتمع ليُفسّر هذه الفروقات من منطلقات طائفية أو أخلاقية أو ولائية، في حين كانت السلطة تغذّي هذه الفوضى المقصودة في تصنيف الناس ومصائرهم. هذه الفوضى لم تكن عارضًا، بل أداة أساسية لإبقاء الجميع في حالة خوف دائم: من الآخر، ومن الدولة، وأحيانًا من أنفسهم.

            النظام لم يكن فقط يراقب الخارج، بل أعاد تشكيل الداخل، فجعل التدين أمرًا مشبوهًا، والانتماء المختلف عبئًا، والحديث في السياسة مغامرة غير محسوبة. وقد ساعد في ذلك نزع الشرعية عن كل مؤسسة أو مرجعية بديلة: سواء دينية أو فكرية أو حتى مجتمعية. هذا الأمر لم يكن مقصورًا على طائفة أو بيئة، بل طال عموم السوريين بدرجات متباينة، بحسب موقعهم من منظومة الولاء أو تهمتهم المفترضة.

            في هذه الظروف، بات كثيرون يفكرون فقط في قوت يومهم، يخشون التغيير لأنه قد يستدعي الفوضى التي يُقال إن النظام وحده يمنعها. وهكذا، استثمرت السلطة في الندرة، في الخوف، وفي تجويع لا يقتصر على الخبز، بل يمتد إلى المعنى والكرامة والخيارات.

            في روايته الرسمية، قدّم حافظ الأسد نفسه على أنه “ابن الفقراء”، رجل خرج من قرية متواضعة ليحمل همّ الجماهير المهمشة. لكن الواقع أظهر مسارًا مختلفًا: استخدام ممنهج للفقر لا لمحاربته، بل لترسيخه. في الساحل السوري، حيث تنتمي بيئته الاجتماعية، لم يشهد الناس مشاريع حقيقية للنهوض الاقتصادي أو تنمية مستدامة، بل بقيت القرى بلا ماء، والفرص معدومة، والزراعة خاسرة، وكأن هناك إرادة بإبقاء الناس في خيار واحد: الالتحاق بالمؤسسة العسكرية، لا طلبًا للمكانة بل للعيش.

            بهذه الطريقة، أعيد تشكيل العلاقة بين السلطة والمجتمع، ليس على أساس الحقوق، بل التبعية. من يدخل الجيش، أو ينتقل إلى المدينة، يجد نفسه في الهامش مجددًا: في العشوائيات، في مساكن لا ملكية لها، في فضاء رمادي لا يُحاسب فيه على البناء المخالف إلا حين تريد الدولة أن تُذكّره بموقعه. فيتم التساهل حينًا، والتهديد بالهدم حينًا آخر، لتظل الرسالة واضحة: وجودك مرهون بولائك، وأمانك الشخصي مشروط ببقاء هذا النظام.

            لم يكن ذلك حكرًا على أبناء الساحل، بل امتد لاحقًا إلى كل المحافظات، حيث أصبحت الدولة هي المشكلة، ثم تُقدَّم كحل لها من خلال رأس النظام نفسه. هي التي تهدم، ثم تُوقف الهدم بأمر مباشر منه؛ هي من تُطلق يد الأجهزة، ثم يطلّ الرئيس بطمأنته الفارغة، ضامنًا الحماية الشخصية لمن يرتجفون من فروعها.

            في هذا المشهد، تحوّل المجتمع إلى كتلة من المعلّقين في الهواء، لا يملكون أرضًا يقفون عليها سياسيًا أو اقتصاديًا. أصبح الناس أدوات في مشهد يُدار بخيوط الخوف والانقسام، بينما يُعاد إنتاج الولاء تحت وهم “الأمان”، وتُستدعى الطائفة حينًا كدرع، وتُترك للفقر حينًا كعبء، في علاقة لا يحكمها ميثاق واضح، بل منطق النفوذ والمصلحة.

            حين تولّى بشار الأسد الحكم، بدا في البداية وكأنه يحمل وعود التغيير، أو على الأقل لغة أكثر نعومة من تلك التي ميزت عهد والده. لكن سرعان ما تبيّن أن جوهر النظام لم يتغير، بل أعيد إنتاجه بأساليب تبدو مختلفة ظاهريًا، فيما الجوهر واحد: البقاء في الحكم مهما كلّف الأمر.

            ورث بشار أدوات السيطرة ذاتها، وأُحيط برجال “العهد القديم” الذين حافظوا على الخطوط العريضة التي رسمها حافظ الأسد. كانت أولى قراراته رمزية: هدم لمساكن الفقراء في حي الورود بحمص، دون اكتراث لمن يعيش فيها، ثم تراجع إعلامي يُظهره كبطل أعاد الحق لأبناء طائفته، متدخلاً شخصيًا لإيقاف القرار ومعاقبة المسؤولين عنه.
            هذه الديناميكية – صناعة المشكلة باسم الدولة، ثم تقديم الحل باسمه الشخصي – أصبحت نمطًا متكرّرًا في إدارة العلاقة مع الجمهور، داخل الطائفة وخارجها.

            بشار، مثله مثل أبيه، لم يكتفِ بالقبضة الأمنية، بل عمّق فكرة الانقسام داخل المكوّن الواحد. داخل الطائفة العلوية، لم يكن مسموحًا بقيام أي مرجعية دينية أو فكرية مستقلة. محاولات علماء الطائفة لتأسيس مجلس أعلى، كما لدى بقية الطوائف، أُجهضت. بعضهم تعرّض للسجن أو النفي أو الإقصاء، واستُبدل بوجوه أمنية أو حزبية تخدم الخط الرسمي.

            ومع الوقت، أصبح من يعبّر عن رأي مختلف عرضة للتهميش أو التخوين أو حتى التكفير داخل مجتمعه، لا من السلطة فحسب، بل من محيطه أيضًا. هكذا جرى تحويل الطائفة إلى فسيفساء مفككة من العشائر والتكتلات، لا يجمعها مشروع، بل الخوف من التفكك. المعارض العلوي، حين يظهر، لا يواجه السلطة الأمنية فقط، بل أحيانًا وصمة مجتمعية مضاعفة، تكاد تجعله غريبًا في بيئته، قبل أن يكون خصمًا للنظام.

            هذه السياسة – القمع من الداخل قبل الخارج – جعلت من فكرة التغيير السياسي مسألة محفوفة بالتكلفة في كل الاتجاهات. ليس فقط على مستوى الطائفة العلوية، بل في عموم البلاد، حيث عُمّم منطق الطاعة، وغُذّيت ثقافة الخوف، وتحوّل الأمن إلى معيار الولاء، فيما ظلت الهويات الأهلية أداة للفرز، لا وسيلة للتنوّع.

            في النهاية، لم يكن الهدف الحفاظ على تماسك اجتماعي، بل ضمان تفكّك دائم تحت السيطرة. وهكذا، بقيت السلطة قائمة على التهديد لا على الشرعية، وعلى إدارة الصراعات لا حلّها، لتظل راية البعث مرفوعة – لا على العدالة أو الكرامة – بل فوق أكتاف فقراء، حُرموا حتى من حق الاعتراض.

          6. من عامودا إلى دمشق- سبع مناظر ومسجد

            من عامودا إلى دمشق- سبع مناظر ومسجد

            المنظر الأول – في وقت ما من خريف ٢٠١٢ – دمشق.

            سقوف عالية – دَرجان طويلان يمتدان صعوداً نحو الأعلى مروراً بطوابق ثلاث من طرفي البناء ليترك في الوسط بهواً يشكل صندوقاً بثلاثة جدران على جانبيه ويصبح الدرج مثل ذراعين يلفان البهو. وسقف يشرح صدر الطوابق الثلاث أو الأربع على بعضها البعض. فالناظر للأعلى من نقطة دخول البناء بإمكانه ان يرى بناءً أجوف من الداخل بكل طوابقه وغرفه المستمرة على الأطراف الثلاث.

            البناء جديد، والبلاط يلمع. ما يبرز بريقه أكثر، هو الغبار والقِدم الذي تظهر عليه الأبنية الأخرى المحيطة به.

            ذلك – بناء كلية الاعلام بجامعة دمشق.

            دخلته للمرة الأولى، صباح اليوم التالي من وصولي لدمشق في يومٍ ما من أيلول ٢٠١٢. في التاسعة عشر من عمري، متشوقٌ للتسجيل كطالب في كلية الإعلام. الوحيد من مدينتي من دفعة هذا العام يدخل كلية الاعلام. لا بفعل الرغبة والعمل الجاد تجاهه، بل على سبيل غفلة من حماسة شاب يريد أن يثور على رغبة أبويه في دراسة فروع علمية، وجموح ثورة دخلت البلاد ولم تحط رحالها سوى في قلوب مراهقي هذا البلد. وصلتُ مكتب شؤون الطلبة، لم يبدأ التسجيل بعدُ. وتأجلت فرحتي، كطفل فقد حلوى العيد.

            – إرجع بكرا بلكي يكونوا وصلوا قوائم الأسماء.

            المنظر الثاني – كلية المراقبة وروائح الخوف. خريف ٢٠١٢.

            سقوف عالية– درج يلف جوف البناء، يبدأ يميناً وينتهي في مكان ما – ليس في السماء- ليس عند الله.

            الرائحة المنتشرة لا تشبه الله.

            شؤون الطلبة – مكان ما في قلب تجويف المبنى – خريف العام ٢٠١٢

            الملامح جميلة، والابتسامة مريحة. أحاول جاهدا تذكّر الاسم. هل كان اسمها رشا؟ بعد زياراتي المتعددة للموظفة في شؤون الطلبة، استغربتْ مواظبتي على المجيء صباح كل يوم. تبتسم للهجتي الجزراوية، ومن لغتي العربية المطعمة بلكنة الكردي القادم من الشمال. لا تجد رشا الكثير منّا هنا. لأن الكرد لا يرتادون هذه الكلية. لسبب ما يحب الكرد دراسة الأدب العربي. كلُّ كردي قادم من الجزيرة السورية يحلم لأن يكون سليم بركات. يحلم أن يحرر العالم بلسان الضاد، ذات اللسان الذي حُبس داخله لعقود.

            – لا إسه ما اجت القوائم.

            – اشقد يطولوا عادة؟  كل الكليات الثانية بلش فيها الدوام

            – ما منعرف – يمكن بأي وقت. تعال بكرا

            أستريح في باحة طلبة الآداب. هناك كما علمتني المسلسلات السورية أن شِللاً من الطلبة تجتمع وتشكّل صداقات.

            هنا مكان التسكع، والحب.

            الحرم الجامعي – دمشق ٢٠١٢

            – من أين جاءت تسمية الحرم يا تُرى؟

            أتعرّف على قيس – شاب يدرس الاعلام وينتظر تسجيله مثلي ويشاركني البحث عن أصدقاء. ويقدم نفسه مسالما مبتعداً عن السياسة ومشاكلها. ينتظره أخاه الموظف ليعطيه مصروفاً وعائلته تسكن في أرياف الداخل السوري. نبحث سوياً عن صداقات.

            فتاة: الاسم يغيب عني. يحضُرني صوتها الصاخب، ثقتها المفرطة التي تُربك قرويتي وبساطتي، انا غير المعتاد على الحديث مع فتيات مدينيات. كعبٌ عالٍ يُسمع صوته بهو البناء، ويشتبك مع صوت الحوامات والمدافع. أخذا ورداً

            يغازلها قيس، تبادله هي المغازلة. يشتركان باللهجة، وللمصادفة ينحدران من قرى مجاورة –

            في الفسحة الواسعة أمام كلية الاعلام، وفي الثالوث الذي يُقرّب كلية الاعلام من معهد اللغات ويتجه نحو كليات الآداب والعلوم الفلسفية. ثالوث من خليط ليبرالي وفضاء طلبة لديهم ترفُ إضاعة الوقت والاهتمام بالحب والأناقة. هنا، شرقَ هذا الحرم، في هذا الثالوث يعيش الحب.

            اتظاهر بالهدوء مع ابتسامة لا أعرف ماذا توحي.

            – وإنتْ. إنت من وين؟

            – من عامودا.

            – ولي – ما أقواكِن. كل المظاهرات من عَندْْكِن.

            أبتسمُ وأتهرّبُ من أي رد. ثم أسأل – أهذا فخ؟ أم أن بعض الناس تحظى بحصانة التحدث في السياسة

            المنظر الثالث – لا داعي ان تعرف العائلة، دمشق ٢٠١٢

            طائرات تحرث سماء دمشق، حوامات تجيد الضجيج، وصوت مدافع. رائحة البارود والدخان تتصاعد – وتختلط مع روائح ساندويش البطاطا المقلية وكميات المايونيز المفرطة.

            ضجيج في المكان، صالات البلياردو كئيبة. الهواء يفيض بالمخبرين والمتسلقين.

            اتصال هاتفي من القامشلي:

            – اذا مافي دوام ليش ما بترجع، الوضع ما بطمّن بالأخبار.
            Veger layê min… veger malê

            – مافي شي الوضع تمام.

            تأخرت قوائم تسجيل الطلبة… أبحث عن مسامرة، أبحث عن قيس.

            المنظر الرابع – هاملت والكردي المندمج.

            بعيداً عن تمثال الأب العملاق. وبالقرب من متجر الموسيقى الرديئة، الذي يُسمع كامل السكن.

            يعيرني صديق جديد (رودي) منهمك بعامه الأخير من دراسة الطب البشري ومرحلة الستاجات لينتقل لسكن آخر. سيصبح طبيباً بعد أشهر قليلة. يناديني بأخيه الأصغر، ومعجب بحماسي الثوري، حماس البدايات، أو بسذاجة البدايات كما يسميها. يعرني كتاب “هاملت” لشكسبير، لأقرأ طالما انتظاري سيطول.

            أنتظر قيس على مقعد تحت فيئ شجرة. وأضع تمثال حافظ الأسد العملاق خلفي. الخوف من التمثال، أكبر من الأسلحة التي يحملها أعضاء اتحاد الطلبة الذين يحرسون البوابات.

            يأتي لزيارة قيس أخاه الموظف مرة أخرى ليعطيه مصروفه ربما. يجلسون على مقعد منفصل، يتحدثون لدقائق معدودات. يرحل اخاه ويحمل شيئا قبل خروجه باب السكن الذي يحرسه أعضاء اتحاد الطلبة المسلحين.

            – شو بيشتغل اخوك.

            – موظف

            – كأنه حمل مسدس من اتحاد الطلبة.

            – أي هاد مسدسه، بيسلمه عالباب وقت يفوت.

            – موظف وين أخوك؟

            – بالأمن العسكري.

            راجعت في أجزاء من الثواني، جميع محادثاتي مع قيس. كيف اخبرته عن مظاهرات عامودا، عن اسقاط تماثيل الأسدين، عن كرهي للنظام ومشاعري في المظاهرات. عن بحثي في كل لحظة عن انترنت مجاني لتتبع أخبار الثورة. راجعت كلّ اللحظات التي سماها رودي – سذاجة سياسية.

            المنظر الخامس – السكن الجامعي، المزة ٢٠١٢.

            ليل، لا يخلو من موسيقا رديئة. كاس من المتّة وسجائر لأول مرة تُحترق بدون خوف. اللهفة والرغبة بالحب والمخاطرة. جيوب تخلو من النقود.

            الأسابيع الأولى من السكن الجامعي، يسكن كلّ أينما أراد بورقة مؤقتة تخولك الدخول وإيجاد سرير ما في غرفة ما. بعد تقديم الأوراق اللازمة للسكن الجامعي، ستنتظر شهراً أو أكثر حتى تصدر أسماء المقبولين.

            – ماذا يحدث إذا لم يقبلوني.

            – تستأجر غرفة أحد المقبولين الذين لا يريدون السكن هنا أصلا، تشتري سريره.

            – وأين يسكن هو.

            – يستأجر شقة خارج المدينة الجامعية.

            انضم إلى طلبة كرد في الوحدة الثالثة عشر، جميعهم يدرس الطب البشري. بهاء يواظب على الصلاة، والآخر يأن بحب فتاة لا تبادله الحب. والآخر يسخر من ثورة لا تتبنى أفكار لينين، وأنا انتظر بدء الدوام الجامعي. وشيخو، الذي يريد لعب ورق الشدة، ولا يخاف من أحاديث السياسة بصوت عالٍ، يخيف بذلك كل من في الغرفة. فيؤنسني وأؤنسه.

            لم ارتد مسجدا في حياتي سوى مرتين او ثلاث. واحدة مصاحباً أحد أقربائي في عمر صغير. والثانية والثالثة بدعوة من مدرس الثانوية الذي يعمل إماماً في مسجد الحي. كان يصل الجدال السياسي، درجة معقولة، لكن الجدل الديني كان يصل طرقاً مسدودة. فترتفع الأصوات، وتصبح الشتائم أسهل طرق التعبير. شيخو وأنا نضغط على بهاء، فلا أجوبة لديه على أسئلتنا المتعلقة بعقيدته. فيقول… “أصلي لأن الصلاة تشرح صدري” وينهي الكلام.

            لكن في ذلك اليوم، جنّ جنون شيخو. تناول سجادة الصلاة، ورمى بها من الطابق العاشر الذي نقطنه. كانت تلك طريقته هو لإيقاف النقاش.

            عوانية شيخو في رد فعله دفع بنا للصمت طيلة ذلك المساء. مع اقتراب منتصف الليل، وابتعاد النعاس عن غرفتنا. تطوعت لصنع “براد شاي” صِلحة على سخان الكهرباء الصغير. سخانات غرف الموظفين.

            أصبح الشاي جاهزا، اقتربتُ لحمل الابريق، ليدلق الشاي أرضا هزة أرضية أوقفت سريان الدماء في عروقنا.

            انفجار ضخم قريب هزّ الأرض والمدينة الجامعية بأكملها. عرفنا انه انفجار في الجمارك بعد حين. انقطعت الكهرباء عن كامل المدينة.

            شاي ساخن، ليل معتم، أصوات رشقات نارية تحولت لـWhite Noise Machine

            تساعد على النوم في رتابة الصوت.

            أزور قيس في سكن طلبة الإعلام لأحاول التعرف على بعض الزملاء الآخرين واخرج من الغيتو الكردي الذي لم أجد غيره يحويني في ايامي الأولى.  كلّ أصدقاءه لا أحاديث لهم دهاء القائد المُفدى، ولا عمل سوى شرب المتّة وسماع الأغاني المزعجة- تلك التي يطغى عليها صوت آلة واحدة هي الأورغ- والسُباب على “المندسين”. أخاف من فائض صور الأسد على الجدران، ولا أخاف القول بسذاجة أني أخرج في مظاهرات. أيُّ ساذج يثق بممجدين للنظام، فقط لأنهم قالوا أن تثق بهم.

            المنظر السادس، حاجز للجيش – أوتوستراد كبير وسط دمشق. خريف ٢٠١٢.

            كراج الباصات يهرب من مكانه بفعل الاشتباكات، وحاجز عساكره بقمة الأناقة والهندام في السادسة صباحا. لا يمر منه أي مندس. أوقف العسكري التكسي الذي يقلني وطلب مني الترجل دونا عن عشرات العربات التي تقف منتظرة وتمر. معي حقيبتي التي حملها إليّ سائق باص البولمان الكردي من القامشلي إلى دمشق.

            أُخرج هويتي من حافظتها

            – ليش هويتك مكسورة.

            – مدروزة مو مكسورة. لاني بحطها بالجيب الوراني.

            – انا كمان بحط هويتي بالجزدان والجيب الوراني وما بصرلها شي.

            – والله ما بعرف يعني هيك تسع ساعات من القامشلي لهون بالباص

            – شو بتعمل هون

            – طالب بلكية الاعلام – وهي بطاقتي الجامعية

            – انت من عامودا؟

            يتمعن فيّ، يفكر. يطلب مني الذهاب وإصلاح موضوع الهوية.

            أعود للمدينة الجامعية، وانضم لآكلي صندويش البطاطا المقلية.

            يوم جديد مع رشا.

            أصبحت رشا تعرفني جيدا. أصل باب مكتبها، ولا اهتم لأسم زميلتها أو الحديث إليها. ابحث فقط عن رشا وابتسامتها. رغم فارق العمر الكبير، أصبحت افكرّ بأمثلة ناجحة عن علاقات ناجحة بين شباب تزوجوا نساء يكبرهنّ بعشرين عام.

            تبتسم رشا كعادتها، وتطلب مني العودة غدا.

            – مرحبا، أرجع بكرة؟

            – لا تعال تعال… وصلوا القوائم.

            تساعدني رشا بملئ الاستمارات، ووضع الطوابع وتتفقد كامل الأوراق المطلوبة. تبقى ورقة واحدة…

            – عبي هاي.

            – شو هاي

            انها ورقة بسؤال واحد. هل تنتمي إلى حزب البعث؟

            حملت الورقة بسرعة المتلهف على انهاء تسجيله الجامعي، وأسجل بكل ثقة على خانة “لا”. فتستغرب رشا.

            – كتبت لا؟

            – أي

            – متاكد؟

            – شلون يعني؟ أي ماني عضو بحزب البعث؟

            – ايه – بكيفك.

            لم افهم ردة الفعل، وما الموافقة التي اعطتني إياها رشا على مضض؟

            المنظر السابع – اجازات الأعياد تُمضى مع العائلة.

            شتاء ٢٠١٢

            أفواج من مقاتلي جبهة النصرة دخلت رأس العين؛ المعارك تقترب. الانترنت يعمل ساعة أو اثنتين كل عدة أيام. الكهرباء تتقطع بشكل أكبر الآن. الأسعار ترتفع، وليس هناك فائض مالي يكفي السفر لدمشق.

            عيد الاضحية عامودا – شتاء ٢٠١٢.

            منزل أحد الأصدقاء، مدفأة مازوت في زاوية الغرفة، عشر شباب متوقفين عن دراستهم الجامعية لحين أن تهدأ المعارك، نتناوب على لعب ورق الشدة ولعب الفيفا على الكمبيوتر. وحلقة سياسية في إحدى زوايا الغرفة. هنا في الشمال الكردي، لا خوف من الأحاديث السياسية، ولا وجود لمظاهر البعث وأحجار عملاقة للعبادة. مخدات ومجالس مدّ عربي تشكل صندوق مفتوح، أطعمة وحلويات العيد موزعة حول الغرفة. وملف اكسل يحمل تسريبات أسماء المطلوبين وصل للتو مع أحد الحاضرين وأوقف ضجيج التسالي.

            نطمئن لعدم وجود أسمائنا على قوائم المطلوبين لأقبية الموت الأسدية. نضحك ونشتم ونبدع في ابتكار الشتائم وطرائق الغش اثناء اللعب، حتى ينادي أحد المكتفين من اللعب.

            – بشير ها اسمك ذا بين المطلوبين.

            – كيف ذلك، بحثت ولم أجد.

            – اسمك موجود في قوائم القامشلي وليس عامودا.

            بشير فهد أمين – والدته سهام. تولد القامشلي. مطلوب لشعبة الأمن السياسي.

            ورقة خاسرة لي، ورقة رابحة للعائلة تشرعن منعي من السفر لدمشق من جديد.

            المنظر الأخير

            مونتريال – شتاء التحرير – ٢٠٢٤

            الثلج يغطي الطرق والبيوت والسيارات. الثلج يغطي الحياة. قطتي تجلس على طرف الصوفة وتلعقُ دُبرها. سقط النظام قبل أيام قليلة. سوريا وجامعة دمشق من دون بشار الأسد.

            لا زالت الاحتفالات بسقوط النظام مستمرة. ولا تزال طريقة التغلب على لحظات الاكتئاب وعُسر الحياة في المنفى، بحيلة تذكير النفس أن هذا النظام قد سقط.

            – تذكر ان النظام سقط – النظام سقط.

            ذلك كفيل برسم ابتسامة عريضة، وتحمل ما سيرميه النهار وبيروقراطية الدولة علينا خلال البريد.

            كما لا يزل مَني النفس بسقوط النظام يغلب على الخوف من المتشددين. لا بأس. كل ما أريده الآن العودة إلى دمشق التي لم أحظَ بالعودة إليها. والمشي في بهو كلية الاعلام الواسع، والبحث عن نسخٍ منيّ وصلت تواً إلى دمشق. نسخ من شباب يحمل اطنانا من الأحلام وبعض السذاجة. والبحث عن رشا التي حذرتني من كوني غير بعثي. وأين يا ترى الآن تامر، وشيخو، وبهاء، وسليم، وهؤلاء الذين لم اعد اذكر اسمائهم. لكني أتذكر ملامحكم جيداً، أتذكر نوع السجائر الذي تدخنون، وكذبكم امام المخبرين بانكم مخلصون للوطن وقائده، ثم تشتمون قبورهم في غيابهم. أذكركم جميعا.

            لا بديل سوى عن المنصة الزرقاء للبحث عنهم. لا خوف الآن عليهم او علي. لن أخشى على اعتقال احد، ولن أخشى على ان يتعقبني أحد حتى ولو في المنفى.

            فضاء المنتصرين، وطن المنفيين – فيسبوك ٢٠٢٥

            ألعاب نارية في ساحة الأمويين، دي جي، ومقاهي، وحفلات، ومباركات. يقولون ” هذه المرة ستكون سنة خير أكيد، لا مناص” وكأن شعباً كاملا قرأ في المستقبل، وعرف أن العام الجديد أفضل، لحساب علمي بسيط. رحل قاتلوا الفرح. الأجمل، ان كل السوريين المنفيين احتفلوا برأس السنة على منصات التواصل. يحتفل المنفيين مع سوريا ويشتمون منفاهم. وصلت لفضائي، وصلت لمن تركتهم يدخنون الكلواز الأحمر، ويحتمون من تماثيل وصور الأسدين من حولهم. وصلت إليهم، وجدتهم، بمصائر مضطربة، وعيون ذابلة، وظهور منحنية من ثقل الموت، والقلق، والخوف. واستحالة النجاة.

            المنظر صفر: الحرم الجامعي -ثلاثة عشر عاماً ومونتريال – شتاء عام ٢٠٢٥

            على الشاشات، الذكية منها والتقليدية. تنتشر صور لكلية الاعلام، “بعد التحرير”. صور هي الأكثر تداولا ورواجاً الآن من جامعة دمشق. لكن دون الإمكان من رؤية المبنى والباب بشكل كامل. يعوّق الرؤية ما يبنيه المحررون المقررون، بناء مسجد أمام باب كلية الإعلام، ينظر على المساحة الواسعة الرابطة بين كلية الآداب والاعلام وكليات الطب. في وسط الحرم الجامعي، عند ثالوث الحب تماماً.  يُبنى الآن، حرمٌ إلاهي.

            عدت بالذاكرة وكأني اتجول في محيط الكليات. لا توجد مساحات لأبنية جديدة- أين يُبنى الجامع؟ هل بنوا الجامع في الساحة الرئيسية أمام الكلية. على الدوار الذي يربط الطريق السالك من شرق الحرم إلى غربه؟ أم انه سيُبنى مكان كلية طب الأسنان؟ سأكون سعيداً للأصدقاء الذين سيتمكنون من قضاء طقوسهم في جامع داخل تجمع الكليات. تلك الصلاة التي كانت تشرح لهم صدرهم. لا بأس ان لم تشرح صدر مبنى الكلية وأحلت مكان الشجر القليل المزروع. هل قبضت رشا معاشها بعد؟ كيف جُمعت الأموال بهذه السرعة لبناء صرح وسط الجامعة؟

            في مدخل مدينة الباسل الجامعية، كان نسخة عملاقة من حافظ الأسد تراقبك. وها وسط ساحة الكليات، بالقرب من معهد اللغات، وكلية الاعلام، وعلى مقربة من كلية الآداب يُبنى صرح سيراقب كعوب النساء العالية. هل سيبادل قيس صديقته الغزل؟