“- يا بيك، لو بدل الإذاعة عمرتولنا سد بـ وقف بـ وش الطوفان، مو كان أفيد للضيعة؟..
— له يا أبو شحادة، على حساب إنت بتخاف الله وبتصلي لك يا إبني… هذا الطوفان جاي من عند الله.. حطلّك سد بوشو
لك مو حرام؟!!!!… أنا ما بعملا…! يجي بيك غيري يعملا… في آخرة شو هالحكي…! استغفر ربّك استغفر ربّك!!!!”
حوار من مسرحية “غربة” ل محمد الماغوط، اعتمده صانعا أفلام وثائقية كمدخل درامي ومفاهيمي للشريط التعريفي القصير الذي عرضاه للتعريف بفلمهما ضمن تدريب في ورشة عمل لصناعة الأفلام الوثائقية ب دمشق 3202. كان الفيلم يبحث في الاغتراب المعرفي الهوياتي الوطني بين مفاهيم الطفولة قبل وبعد بدء الحرب/الثورة/الأزمة في 1102.
كان رد فعل المشاركين _ بين الـ 52 والـ53 عاما_ أن الطرح البصري والمشهدي (خشبي وقديم وميّت…. وأن هذا “الخطاب” الذي تستدعيانه إنما هو تموّت فكري وهو مسبب للأشكال الدكتاتورية في العالم بأسره. مات زمن الأيديولوجيات).
قبل هذه الحادثة بـ 93 عاماً ولدت وعشت في منزل به مؤلفات وصور “لينين” و”ستالين” و”ماركس” و”إنغيلز” و”عبد الله أوجلان” و”مهدي عامل” و”جيفارا” و”كاسترو” و”هو شي منه”… عشت في المنزل مع إخوتي وأبي القيادي في الحزب الشيوعي (بكداش) في الستينات، والدي نفسه؛ هو منعنا من الانتساب لأي حزب شيوعي، ودفعنا _ولو بالضغط_ لقبول الانتساب لـ البعث تجنباً للمشاكل، وهو الذي عمل 44 سنة بعيدا عن عائلته في السعودية معقل التطرف والتدين والرجعية حسب وصفه، وهو الذي ردد دائماً: “كنا يساريين شيوعيين وقياديين وناضلنا، وخلصت، هلق انتو لازم تعيشو…” ليخبرنا أن الذي عاشه كان عكس الحياة.
وللمفارقة أن أمّي، المصنفة ضمن العقول البسيطة وفق تعابير مثقفي المرحلة تلك، أمي هي التي أتاحت لي الفرصة الكبرى للتعلم والتعرف على المناهج الفكرية المختلفة وفق حكمتها الجدلية: ” وحدو الميّت ما بهمّو يتعلم او يتعرف ع شي جديد”، ودخلت حلقات الحزبين الشيوعيين المنضويان تحت السلطة الرسمية، وحزب العمل الشيوعي بروح رفاقه المنكسرة. غنيّت أغاني سميح شقير ومارسيل خليفة في سهرات اليساريين الثملين بنشوة الحزن والانكسار العربي/الكردي/الشرق أوسطي والحنين لانتصارات عاشها الاتحاد السوفييتي وليس هم، سمعوا عنها ولم يقرؤوها حتى.
سردوا ذات الخطاب الصادر في الجريدتين الرسميتين، ومرة قال أحد أبناء القياديين: “خلافنا مع حزب الله أيديولوجياً، وحتى لو نلتقي معه كفاحياً لكننا لا نتراجع أيديولوجياً قيد أنملة…” ولم يشرح ما عناه فلم أفهم، وحرجاً لم أسال، فاضطررت للغوص في معنى أيديولوجيا والأدلجة، في كتب القومية في المدرسة وفي المراجع المتاحة في مكتبة المركز الثقافي، ولم أفهم.
عدت وسألتهم، ولم أفهم، سألت أبي، ولم أفهم… لم أفهم حقاً كيف اتفقواً جميعاً على ذات الصياغة وذات الفهم والمصطلحات وذات الخطاب، حركات اليدين وخيانة اليسار لليسار، الصراع بين مؤيدي تروتسكي وجماعة أبو عمّار، لماذا تحالف رياض مع الإخوان، طوفان الرفاق الأكراد الذين حضروا عيد ميلاد الحزب في السويداء في الستينات، وذات المقتطفات من ذات المؤتمرات، ذات الطيبة والهزيمة والانكسار.. وذكريات الاتحاد السوفييتي ذاتها.
اتفقوا على كل ذلك ولم يتوصلوا لإفهام مراهق في الـ 51 من عمره ما مشكلة الأيديولوجيا واليسار والشيوعية إذا كان هذا الفكر الرائع بهذه الرؤية العظيمة، ما مشكلتهم، لماذا لا نعيش في ذاك النعيم، من وكيف ولماذا سُرق منّا الاتحاد السوفييتي الذي لا يمكننا التعرف إليه اليوم…؟
لم أفهم لماذا كنّا، نحن الشباب اليساري، كلنا حصراً أبناء يساريين أشدّاء سابقين، متعالين على غيرنا من “الجهلة” الغافلين غير الآبهين بنا، وكأننا ورثة مملكة بين الكواكب خسرها آباءنا وطُردنا منها، فنستعيد إرثها بحنين وحزن ومظلومية…
كان أعتى اليساريين _الشيوعيين والناصريين والقوميين والفوضويين_ يبنون خطابهن على لعنة أمريكا والرأسمالية، والترحم على الأمل في الاتحاد السوفييتي… وفقط…. فقط…. أي سؤال بعد ذلك كان مبرراً للتعالي والتسلط في المصطلحات، وأي أفق بعد ذلك كان مغلقاً وبانتظار السوفييت أن يعودوا ويجترحوا المعجزة مرة أخرى…
هنالك شيء ما مفقود في معلوماتنا! هذا كان جوابي عن تفجيرات 11 أيلول بين رفاقي المراهقين الذين يتناقشون معي بصفة المثقف اليساري. هناك شيء مفقود في معرفتنا، حتماً، لهذا لم نفهم لماذا غزى الجيش الأمريكي أفغانستان، ولم أفهم أنا لماذا كنت أدمع في الساعة 3 صباح 91 آذار يوم اجتياح العراق وانا أتحضر لامتحان الثانوية العامة. المفقود في معرفتنا كان ما بعد تلك الـ (فقط)، لأنها تعني أن كل الفعل توقف هنا، بيننا، نحن، من نفهم المصطلحات بيننا، وفقط، لا فعل خارج سهرات السمر، ولا خارج مكاتب القيادة، ولا خارج دوائر الرفاق المحطمين بعد اعتقال وتعذيب وفقدان الأحباء والرفاق… لا يوجد يسار خارجنا…
واليسار حصد اسمه في التاريخ عندما وقف من يدافع عن مصالح الجماهير على يسار الخصوم، لكن أنا كنت بين جماهير تكره اليسار، لأنها لا تعرفه كما أعرفه أنا ربما؟… كيف إذا أنا يساري، والجماهير تكره اليسار الذي من المفترض أن يدافع عن مصالحها؟.. إذاُ أنا لست بين الجماهير، ولا أحد ولا رفيق من اليسار الطرب حزناً كان بين الجماهير!!!…
والجماهير… الجماهير في التصاريح الفوقية التي تناسخها عتاة اليسار إياهم، بالوصف العاجز المحبط المهزوم للجماهير دوماَ.. وإذا سألت : إذاً كيف لنا أن نصنع جماهير حرّة واعية غير محبطة ولا مهزومة؟ كان الجواب لطمية يسارية على أنغام نشيد كاتيوشا السوفييتي..!
معرفة 1:
” لنأخذ سلكاً كهربائياً، يخبرنا العلم أن فيه الكترونات تمتلك طاقة وتتحرك عشوائياً، فإذا وضعنا لمبة على هذا السلك المنعزل الوحيد، لن تضيء، رغم وجود الالكترون بطاقته المطلوبة والناقل، ووضوح الهدف، النور.. رغم ذلك لن تضيء اللبمة، لن تضيء حتى نضع خلية ثنائية القطب، هي البطارية، ينتج النور… علمياً بسبب التيار الكهربائي الناتج عن الاستقطاب الذي طبقته البطارية على الالكترونات، الاستقطاب الذي (نظّم ووجه حركة الالكترونات)… الحزب السياسي أو التنظيم السياسي هو هذه البطارية التي تنظم وتوجه حركة الطبقة/الجماهير/المجتمعات التي تنتمي لها…”
هذا الفهم العميق والمباشر، بهذه الدرجة من البساطة قد حلّ معضلة العلاقة مع الجماهير… العمل التنظيمي، اليومي المضني، هو الأداة الأساسية لـ نوجّه طاقتنا كجماهير.. بهذه الواقعية والبساطة..
فان أكون يسارياً أدافع عن مصالح الجماهير يعني أني أولاً من هذه الجماهير أسعى لتحركيها، يعني ان أعمل يومياً لقضيتنا، يعني أني مواجه ومشتبك، يعني أننا في عملية تنظيم وتوجيه مستمرة لقوانا وطاقتنا، ولأنه لا يكفي أن تؤمن “البطارية” بقدرة الالكترون على الحركة، بل تقوم بفرزه وتوجيهه، كذا لا يكفي أن يؤمن التنظيم ب طاقتنا ك جماهير وفقط، بل المطلوب ممارسة فعل نقدي جدلي، واقعي وثوري، يعطي الجماهير سلاحها في القدرة على التحليل والفهم.. كي ندرك خطورة أكبر عملية احتيال وأهمية أكبر حالة استعصاء في التاريخ..
معرفة 2:
منذ نهاية السبعينيات نشأ تناقض مدمر بين إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي الذي بلغ 601 ترليون دولار في 3202 ، وبين إجمالي عدد ورق الدولار المطبوع في العالم والذي يزيد عن 006 ترليون دولار..
أي أن 005 ترليون دولار مطبوعة ولا يحتاجها أحد على كوكب الأرض..
أي أن الوزن الحقيقي للولايات المتحدة في القرار الدولي هو خمس ما تحوزه عليه اليوم… وبالتالي فالصراع متمحور على هذه الجدلية، وبالتالي يمكن فهم وتحليل حركات الخصم، والسعي لتوقعها وحتى التحكم بنتائجها، وحينها سنحقق التغيير الذي نسعى له يا “جماهير قلبي”… وبالتالي أفهم الآن الضرورة لدى خصمي، ك جماهير..
وأفهم لماذا الولايات المتحدة والدول الغربية ذهبت لحرب أفغانستان والعراق.. ويمكنني أن أتنبأ حدوث أزمة الـ 8002 .. ويمكنني توقع تراجع الأمريكي في المنطقة وقياسه واقعياً..
يمكنني البناء على فهم للتوازن الدولي أنه لم يعد يخدم الخصم الامبريالي سوى تحقيق أعلى مستوى فوضى وتفجير في مناطق سيطرتها هنا ضمن عملية التراجع..
بالتالي، يمكنني، بلا أي حزن يساري، ولا انكسار، ولا لطميات.. يمكنني القول أن الأفق ينفتح أمام الشعوب وينغلق أمام أعدائها التاريخيين، ويمكنني أن أكون يساراً يقف في جهة مصالح الجماهير، أقوم بدوري في الفهم والفرز وتحقيق التحكم، لأنني أملك منصة معرفية.
معرفة 3 : الفكر الثوري لا يمكن أن ينفصل عن سلوك ثوري…
كانوا عاجزين علمياً، بلا منصة معرفية حقيقية…
العجز العلمي حرم المحاصرين في “يسار” عربي أو شرقي، حرمهم القدرة على تحقيق معادلة تفسير – تحكّم – تغيير، المعادلة الحتمية في التعامل مع أتفه القضايا وأكبرها، العجز عن التفسير الثوري الديالكتيكي المرتبط حتماً بالتغيير. واليوم، كما في عام 2005، أن تكون يسارياً يعني أن تعتنق سلوكاً ثورياً، القضايا ليست ترفاً، والعمل التنظيمي يتطلب القدرةً على الإجابة عن أسئلة أصحاب المصلحة، ويتطلب حتماً القدرة على التعلم، والتعلم حتماً يتطلب قراءة وفهم التاريخ، هكذا تبنى منصة معرفة، هكذا ينتصر من ينتصر معرفياً.
اليسار هي جهة الشعوب، والشعوب هي صاحبة القوة المطلقة والشعوب حتماً لا تعني أن تبقى دوماً مظلومةً… وأن تكون يسارياً يعني أن تعي قوة الشعوب وتنتصر بها ولها، أن تنتصر بدل الهزيمة، أن تكون مؤمن علمياً بحركة التاريخ وقوانين الطبيعة وحتمية التطوّر والتغيير، وأن تكون الأشد عاطفية في الدفاع ضد كل الظلم، لا أن تجترّ لطمية المهزوم البائس.. واليسار هي جهة الشعوب لا تعني أن تكون خاسراً أبداً، وإنما يعني أنك قادر على قلب المعادلة والانتصار.. اليسار رغبة بالحياة لأننا نملك العقل والقلب لتغيير هذا العالم… ولأن “وحده الميت ما بيتعلم شي جديد”!.
في سنة 3202 ، في ورشة عمل للأفلام الوثائقية في دمشق، مجموعة أصدقائي السينمائيين الشباب تعاطوا معي أنا وشريكي بحالة شفقة لأننا لا زلنا نؤمن بالتغيير، واتفقوا جميعاُ على أن كل مقولات النضال لأجل العدالة خشبية، واليسار وهم والأيديولوجيا موت، حينها لم يكن أحد منهم يصدقني في تحليلي ل حتمية انهيار الشكل الحالي للنظام السياسي في سورية “نظام الأسد”، كانوا جميعاً في قعر اليأس، وانتشوا جميعاً بعد 8 كانون الأول 4202، ثم عادوا لقعر اليأس بعد 3 أشهر، ومجدداً عادوا للبحث في سبل الاغتراب أكثر وأكثر..
في 5002، كما في 1102، كما في 3202، وكما في 5202/3/8 خلال المجازر في جبال الساحل السورية، ارتدت الفئة المثقفة، النخبة اليسارية الكئيبة المنعزلة ذاتها، مجدداً إلى النكوص والخوف وإعلان ان هذه البلاد لا يمكن تغييرها…
في هذا الوقت، كان اليسار، الجماهير، الشعوب، في كل مرة، تربّي تجربتها الخاصة، تتعلم، تدفع الثمن من لحمها، وتمضي للأمام… والضرورة تفرض نفسها، ومن يملك منصة معرفية يدرك الضرورة لكل ظاهرة، ويدرك أهمية تنظيم الشعوب لتسريع عملية التغيير..
أعي الآن ما كان ينقص، هو أن يمسك أحدهم بقوانين الطبيعة، وإن امتلكنا الفهم ك (فهمانين) ما نحن فاعلين ب هذه المعرفة؟… ان تكون المعرفة أداة تغيير فوق التنظير، أن يكون اليساري خارج الحلقات الآمنة، ألا يتقوقع في برج التنظير الفارغ، وألا يعبدنا نحن الجماهير بقوتنا المهولة وانحرافاتنا الفادحة.. أن اليسار هو التنظيم في قوة الشعوب.. قوة الشعوب هي الطوفان الذي لا يمكن رده ولا منعه، وهذا من القوانين الموضوعية الحتمية للطبيعة!