سؤال الانتماء وهاجس النفي

الواقع السوري من منظور فلسطيني: سردية شخصية

يوميات من الواقع المعاش، لعنة الوجود بين ضياع الهوية واللجوء

إن تدوين الواقع السوري من منظور فلسطيني سوري يمثل تحدياً جماً للكاتب. فترجمة المشاعر المكبوتة، التي لا يُسمح بالإفصاح عنها، واسترجاع ذكريات طواها النسيان في غياب مستمع حقيقي، أمر بالغ الصعوبة. لكن العبء الأكبر يقع على عاتق القارئ، الذي يواجه قصصاً ومعلومات تُروى للمرة الأولى، وقد تكون هذه هي المرة الأخيرة.

كما أنني أواجه صعوبة في تحديد نقطة بداية مناسبة لهذا الحديث، لذلك سأطرح سؤالاً لطالما شغل تفكيري: هل أجد في سوريا وطناً أنتمي إليه؟ والأهم من الإجابة، هو استكشاف أسباب هذا التساؤل.

قد تكون الإجابة بسيطة ومختصرة في بعض الأحيان، بينما تتشعب وتتعقد في أحيان أخرى. في الواقع، لا أجد في سوريا انتماءً حقيقياً، وذلك لغياب أي صوت أو تمثيل لي هنا. فأنا محروم من حق الانتخاب، أي من حق الاختيار، على الرغم من ولادتي ونشأتي هنا، وتجذري في هذا المكان. لطالما شعرت بأنني مواطن من درجة دنيا، لأسباب أدركها جيداً، ولكنني أرفض الاعتراف بها.

ومن الجدير بالذكر أننا، كفلسطينيين سوريين، لا نتمتع بحقوق ذوي الشهداء، حيث لا يحظى أفراد عائلات الشهداء الفلسطينيين بنفس الدعم الذي يحظى به غيرهم. كما أن الخدمة العسكرية مفروضة علينا في سوريا، على عكس الوضع في لبنان والأردن. بالإضافة إلى ذلك، يشير تقرير غير رسمي إلى أن عدد المعتقلين الفلسطينيين في السجون السورية يتجاوز الخمسين ألفاً.

فنحن شركاء في كل جوانب الحياة، في الأفراح والأحزان، في الحياة والموت، في الأسر والحرية. ومع ذلك، أحمل بطاقة هوية تحمل عبارة “إقامة مؤقتة”، مما يجعلني أعيش في وطني كضيف مؤقت، مهدداً بالترحيل في أي لحظة.

ومن المواقف التي لا تُنسى، سؤال أحد الزملاء: “متى سيتم ترحيلكم؟” كان وقع السؤال صادماً، ولكنني تمالكت نفسي وأجبته: “من غير اللائق طرح مثل هذا السؤال، خاصة في ظل الظروف التي نعيشها جميعاً. وأود أن أضيف أن بعض الجهات تستفيد مادياً من وجودنا هنا.”

فأنا أمتلك لكنةً متداخلة، مزيج فريد من اللهجات الشامية والحمصية والفلسطينية واللبنانية، وذلك بحكم جذور والدتي الفلسطينية اللبنانية. هذا التنوع اللغوي، الذي لطالما افتخرت به، يمثل بالنسبة لي تجسيداً ثرياً لتعدد الثقافات التي أنتمي إليها.

أجدني أطرح السؤال ذاته مجدداً: هل أشعر بالانتماء إلى سوريا؟ وهذه المرة، أقدم إجابة مغايرة لما سبق. نعم، أشعر بانتماء عميق، يصل إلى حد الشعور بالضياع والتوهان عند مغادرة سوريا، وتحديداً حمص. حمص، المدينة المظلومة والمنسية، التي قلما تغنى أحد بجمالها وبساطتها، وطيبة أهلها.

حمص، المدينة التي لا يشعر فيها المرء بالغربة أبداً. تجول في شوارعها، في الحضارة، الدبلان، الغوطة، أو حتى بين الأنقاض، ستشعر أنك جزء من أهلها، مهما كان أصلك. أهلها يتميزون بالطيبة والكرم والسخاء، فإذا زرت حمص ولم تجد مأوى، فكل بيوتها مفتوحة لك.

سوريا، وتحديداً حمص، أصبحت بالنسبة لي أغلى من الأهل، فهي تحتضن ذكريات وقصصاً لا يمكن أن تمحى. ذكريات صباحات الجامعة، وزحمة المواصلات، والخوف من التأخر عن المحاضرات. ذكريات الأصدقاء، الصحبة الصادقة، والسند الحقيقي في الأزمات. رغم كل الصعاب التي مرت بها البلاد، لا يزال هناك أناس طيبون وحنونون على بعضهم البعض؛ الشعب السوري الذي لطالما كان حنون ومعطاء، ولكن قست عليه الظروف.

رغم ما قد يتبادر إلى الذهن من تساؤلات حول الانتماء، فإن قناعتي الراسخة وإرادتي الصلبة تؤكدان أن سوريا هي وطني الأول، ومصدر أحلامي، وهذا لن يتغير.

لا أسعى إلى رسم صورة قاتمة، بل أردت فقط تسليط الضوء على فداحة الشعور بالضياع، الذي أدرك تماماً أنه يثقل كاهل كل سوري.

إن العلاقة بين الإنسان ووطنه علاقة عصية على التفسير في معظم الأحيان. قد يتبدى للبعض أن الإنسان ينقم على وطنه بسبب وطأة الظروف، ولكن الحقيقة هي أن الوطن نفسه يرزح تحت وطأة هذه الظروف، ولا يملك حيالها حيلة.

لابد من الاعتراف بوجود فجوة بين المواطن الفلسطيني والمواطن السوري. ولكن ما هي جذور هذه الفجوة؟ وما هي الدوافع التي تغذيها؟ هل يعود السبب إلى غياب قنوات التواصل الفعالة بين الطرفين؟

لماذا يتم ترويج صورة نمطية سلبية عن الفلسطينيين، تصورهم على أنهم غير متحضرين وغير متعلمين؟ من المسؤول عن ترسيخ هذه الصورة المشوهة؟

لماذا تتردد السلطات في السماح بدخول المخيمات الفلسطينية في مختلف المحافظات السورية؟ مما يخشون؟ هل يرون تهديداً؟ لا أظن ذلك.

يستغرب الكثيرون عندما يعرفون أنني ولدت في سوريا، وأن والدي أيضاً ولد هنا. ما هو سبب هذا الجهل؟ ألم يسمعوا عن نكبة عام 1948 والتهجير القسري لأكثر من سبعمائة وخمسين ألف فلسطيني وتشتتهم في أصقاع الأرض؟

كما أن هناك رفض ضمني من البعض لوجود موظف فلسطيني في المؤسسات الحكومية أو الخاصة، بدعوى أنه يشغل مكاناً مخصصاً لمواطن سوري. ولكن إلى متى سنظل أسيرين لهذا التفكير العتيق؟ كما يقول الأجداد، “الأرزاق مقسومة والأقدار مكتوبة”، فليس لأحد أن ينتزع رزق غيره.

آن الأوان للاعتراف بالمواطن الفلسطيني السوري كعنصر أساسي في النسيج الاجتماعي السوري، حيث يتجاوز تعداده نصف مليون نسمة، وهم جزء لا يتجزأ من هذا الوطن.

استكمالاً لما تطرقنا إليه سابقاً حول الفجوة القائمة بين المواطنين السوريين والفلسطينيين السوريين، نجد أن المشهد يتكرر اليوم بصورة مغايرة وأكثر تعقيداً. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، الذي شهد عودة الأهالي من الشمال وتركيا ولبنان إلى مختلف المحافظات السورية، نلمس صعوبة في التآلف والتأقلم فيما بيننا. ويعود ذلك إلى عوامل متعددة، منها الاختلافات المكانية والمناخية، وتفاوت الأفكار والمعتقدات.

المفارقة تكمن في أن المعادلة اليوم هي سوري في مواجهة سوري، يتشاركان اللهجة والجذور، ومع ذلك يجدان صعوبة في التواصل والانسجام. فما بالنا بالفجوة بين الفلسطيني والسوري؟ إن هذا الشرخ أمر طبيعي، وسيتلاشى بمرور الوقت. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكننا تسريع هذه العملية؟ أرى أن الحل يكمن في التواصل والاحتكاك المباشر، وفي الإصغاء المتبادل قبل الكلام، وفي التوحد كجسد واحد بأرواح متنوعة، وفي هدم الحواجز التي أقامها النظام السابق بيننا.

المواطن الفلسطيني السوري ليس غريباً عن المكون السوري، فهو تماماً كما يحمل كل سوري انتماءً فريداً إلى مدينته أو منطقته، سواء كان سورياً حمصياً، شامياً، أو حلبياً، أنا أحمل انتماءً مزدوجاً، فأنا سوري فلسطيني.

في نهاية هذه الرحلة عبر الواقع السوري من منظور فلسطيني، أجد نفسي أمام لوحة معقدة من المشاعر والتجارب. إنها قصة انتماء وتمزق، قصة هوية ضائعة وأحلام مبعثرة، قصة شعبين يتقاسمان الألم والأمل.

لقد حاولت قدر الإمكان أن أنقل صورة صادقة عن الواقع المعاش، بكل ما فيه من صعوبات وتحديات. لم أهدف إلى تجميل الواقع أو تشويهه، بل أردت فقط أن أشارك تجربتي الشخصية، وأن أساهم في إيصال صوت الفلسطينيين السوريين، الذين يمثلون جزءاً لا يتجزأ من هذا الوطن.

أؤمن بأن الحوار والتواصل هما السبيل الوحيد لتجاوز الفجوات وتوحيد الصفوف، وأؤمن بأن الاعتراف بالتنوع الثقافي والاجتماعي هو أساس بناء مجتمع متماسك وقوي.

وأتمنى أن نتمكن جميعاً، سوريين وفلسطينيين، من بناء مستقبل مشرق لهذا الوطن، مستقبل يسوده السلام والعدل والحرية.