الامتياز كعائق في وجه العدالة

قال لي أحدهم، ساخراً: انتو قد ما حاولتو تقلدو الأوروبيين ما رح يرضو عنكم.”وسمعت آخر يقول: تعال عيش معنا يومين، وبعدين احكي عن المجاهدين اللي حرروا.” أما السؤال الذي لم أنسَه:

ليش إنت ما سني؟ وكأن الأمر صار بطاقة عبور أو صك صمت.

المثير للاهتمام أن الذين استخدموا هذه العبارات كانت لديهم منذ طفولتنا و خلال أيام الثورة امتيازات فردية وعلى مستوى عائلاتهم.. امتيازات كان لتوفر على أبي بضعاً من سنوات الاعتقال..

أبي، المعتقل سابقًا، يسمع من أصدقائه كلامًا عن “عيب أن يفكر ابنه بهذه الطريقة”. قيل لي إن عليّ أن أخجل، لا مما أكتبه، بل لأنني أكتبه “وأنا ابن معتقل”. وكأن هذا الإرث يجب أن يكون سجنًا إضافيًا، لا بابًا للتفكير.

سمعت أقربائي يتكلمون، بعضهم لم يرَ مظاهرة إلا من خلف شباك بيته خوفًا، وبعضهم غادر منذ الثمانينات ولم يعد، لكن كلماته كانت حاسمة: كل شي عم يصير طبيعي… هاد حقنا نحنا بعد كل هالسنين صار دورنا.”


شعرت أن كلٌ يتحدث من جرحه، لكنه يتسلح – أحيانًا بوعي وأحيانًا بدونه – بامتياز ما: امتياز الانتماء، أو البقاء، أو الخروج في الوقت “الصحيح”، أو حتى الصمت الطويل الذي بات فجأة شهادة.

في معظم هذه اللحظات، اخترت الصمت عن الرد بالمثل. ليس دائمًا عن قناعة، بل أحيانًا خشية أن يُستخدم امتيازي ضدي، أو أن أمارسه دون أن أدري. لكن هذا الصمت لم يلغِ الأسئلة التي بقيت تُلاحقني: ما الذي يجعل صوتًا مسموعًا وآخر مهمَّشًا؟ متى يصبح الامتياز سلاحًا؟ ومتى يصبح عائقًا أمام أبسط أشكال العدالة؟

من هنا، جاءت هذه التدوينة. ليست تنظيرًا، بل محاولة لفهم… وللبدء من نفسي.

في النقاشات المرتبطة بمفهوم “الامتياز”، غالباً ما يتجه الذهن مباشرة إلى النماذج الغربية، حيث يتم الحديث عن “امتياز الرجل الأبيض” الذي تراكم بفعل قرون من الاستعمار والهيمنة. لكن الامتياز ليس حكراً على الغرب، ولا هو دائماً مرتبط بالبشرة أو اللغة. في الحقيقة، الامتيازات موجودة في كل المجتمعات، بما فيها سوريا، وتتخذ أشكالاً متعددة يصعب أحياناً رصدها لأنها تصبح جزءاً من النسيج اليومي لعلاقاتنا ومؤسساتنا.

الامتياز هو ببساطة تلك الأفضلية غير المعلنة التي نحصل عليها لمجرد انتمائنا إلى جماعة ما، سواء كانت دينية أو طائفية أو طبقية أو جندرية. لا يتعلق الأمر بالنية أو بالشر الشخصي، بل بمنظومات كاملة تمنح البعض أماناً أكبر، فرصاً أوفر، تمثيلاً أوسع، وأصواتاً أعلى، فقط لأنهم وُلدوا في الحي أو العائلة أو الجماعة “الصحيحة”.

في زمنٍ ليس ببعيد، كان من السهل أن نشير بأصابعنا إلى من يملكون الامتيازات: أولئك القريبون من أجهزة الدولة، أبناء المدن الكبرى، المنتمون إلى طوائف محددة، أو ببساطة من ولدوا على “الجهة الصحيحة” من الخط الفاصل بين السلطة والخوف. كانت خارطة الامتياز مرسومة بوضوح فوق حدود القمع، موصولة بأجهزة الأمن، وموثّقة في أرشيفات المخابرات.

لكن ماذا يحدث حين ينهار النظام القديم، دون أن تُفكّك بنياته الرمزية؟ ماذا يحدث حين تُنقل السلطة من يد إلى يد، وتبقى البُنى الاجتماعية والتراتبية الثقافية على حالها، بل وتتكرس عبر وجوه جديدة وخطابات مغايرة ظاهراً؟ هنا، يبدأ الامتياز في اتخاذ أشكال أكثر ضبابية وأحياناً أكثر عُمقاً.

ما بعد الأسد، تحوّل شعار “الحرية” إلى إطار فضفاض، يُملأ بما يناسب اللحظة السياسية. أعيد تشكيل السلطة، لا عبر المؤسسات بل عبر الولاء. لم تعد الأجهزة القديمة تحكم، لكن أجهزة جديدة بدأت تظهر، وإن كانت لا تلبس البزة ذاتها. وبهذا، بدأ نوع مختلف من الامتياز بالتشكل: امتياز الانتماء إلى المعسكر الصحيح، إلى الجماعة “الشرعية”، إلى الخطاب المهيمن الجديد.

امتيازات ما بعد التحرير ليست امتيازات مادية فقط. بل هي رمزية، خطابية، اجتماعية. هي الحق في التعبير، في اتخاذ القرار، في الاحتجاج، أو حتى في البقاء صامتاً دون اتهام. من يملك امتياز الحديث باسم “الشارع”؟ من يُسمح له بتقديم نفسه كجزء من “الثورة”؟ ومن يُقصى، ويُسكت، ويُعاد تصنيفه كغريب أو كمتفرج؟

هناك مفارقة مؤلمة تظهر هنا: في لحظة سقوط الطغيان، لا تسقط معه كل طبقات الامتياز. بل يُعاد إنتاجها، غالبًا تحت غطاء الشرعية الثورية أو الأخلاقية. يُطلب من البعض التزام الصمت لأنهم “لم يعيشوا الواقع”، ويُطلب من آخرين تقديم الولاء كي لا يُشكك في انتمائهم. وبين هذا وذاك، يُعاد رسم خارطة الصلاحية السياسية والاجتماعية.

في سوريا، ومع تغير شكل الدولة، تشكلت امتيازات جديدة فوق الركام القديم. ففي مناطق النظام سابقاً، ارتبط الانتماء الطائفي ببنية الأمن والجيش والفرص الوظيفية. وفي مناطق المعارضة حينها، لا سيما تلك التي هيمنت عليها فصائل دينية أو عسكرية، أصبح الانتماء إلى الأغلبية الدينية المحافظة مصدراً لشرعية اجتماعية وسلطة أخلاقية، ما همّش الآخرين أو دفعهم للهجرة أو الصمت.

الآن لدينا أولئك الذين يتغنون بأمجاد “الأمويين الجدد”، مدّعين أنهم استعادوا حقاً تاريخياً مسلوباً، لكن هذا الادعاء غالباً ما يخفي وراءه نظام امتيازات جديد لا يختلف كثيراً عمّا سبق، سوى في اللغة والرموز.

ومن المضحك في باب هذه الظاهرة ملاحظتها بشكل واضح عند مجموعات وأشخاص لم يعرفو من الثورة سوا اسمها وكانو يتمتعون بامتيازات سواء بسبب وضهم المادي او تواجدهم خارج سوريا خلال الثورة أو سياق عائلاتهم اجتماعياً أو وظيفياً.

الخطير في هذه الامتيازات أنها تُمارس غالباً دون وعي. فالشاب الذي لا يتم توقيفه عند الحواجز لأنه ينتمي إلى المنطقة أو الطائفة “المألوفة”، لا يشعر أن ذلك امتياز، بل يعتبره “الطبيعي”. والرجل الذي يقرر إيقاف سيدة في الطريق ليخبرها ما هو الرداء الصحيح التي عليها ارتداءه أو أن يسأل شخصين يمشون سوياً في الطريق عن علاقتهم ببعضهم البعض، لا يرى في نفسه صاحب سلطة، بل مؤدٍ لواجب اجتماعي. والمتدين الذي يسخر من ملحد أو لا دينياً او من متبعي دين آخر، لا يرى في سخريته قمعًا بل “دعوة بالحسنى”.

ولعل أسوأ ما يمكن أن يصيب مجتمعاً مثل المجتمع السوري، هو أن تتحول فئات منه من ضحية إلى جلاد، أو من مهمشة إلى مهيمنة، دون أن تعي التحول الحاصل أو مسؤوليته الأخلاقية. لأن تكرار البنية التمييزية نفسها، حتى تحت شعارات جديدة، لا يبني عدالة، بل يؤسس لدورة عنف جديدة.

لم تُبْنَ العدالة يومًا فوق امتيازات صامتة.

لا يمكن تحقيق أي شكل من أشكال العدالة دون مساءلة الامتيازات وتفكيكها. وهذا لا يعني إدانة الأفراد، بل دعوة للتأمل الذاتي، والاعتراف بمواقع القوة التي نحتلها أحياناً دون استحقاق، وفهم أثرها على من هم حولنا. فهل من المقبول مثلً أن تُحمى متاجر العاصمة ولا تُحمى متاجر طرطوس؟ أو أن يصان مزار خالٍ من الناس دون أن تُصان حانة مليئة بالبشر؟ وهل من المقبول أن نشعر بالغضب حين تُنتهك حريتنا، بينما نبرر انتهاك الآخرين بحجة أنهم “ليسوا من جماعتنا” أو “أفكارهم شاذة”؟

من واجب الدولة، أيّاً كانت هويتها، أن تحمي كل من يقيم تحت سلطتها. لا يهم دينه أو مذهبه أو نمط حياته. فالمقهى والكنيسة والمسجد والحانة والمدرسة، كلها فضاءات مدنية، يُفترض أن تكون تحت حماية القانون لا أهواء الأكثرية.

اليوم، وبعد التحرر من قبضة نظام الأسد، صار من الممكن الحديث عن الامتيازات بشجاعة أكبر. لم تعد المسألة محصورة بالتمييز الرسمي أو الممنهج. الآن هو الوقت لنفكر بكل امتيازاتنا الاجتماعية والثقافية: عن اختلاف الامتيازات بين أبناء الريف والمدينة، بين السوريين في الداخل واللاجئين أو المغتربين، بين من بقي تحت القصف ومن غادر مبكرًا، بين من يملك شبكة علاقات ومن يعيش على هامش الفضاء العام. لم يعد الحديث عن العدالة ممكنًا دون التوقف عند هذه الفوارق التي تزداد وضوحًا مع تعمق الانقسامات، وتعدد السياقات التي بات السوريون يعيشون فيها.

في هذا السياق، ظهر امتياز جديد لم يكن مُعرّفًا من قبل بهذا الوضوح: امتياز الخارج أمام الداخل. امتياز اللاجئ أو المنفي أمام من بقي في الداخل، أو لم يتمكن من مغادرته. للوهلة الأولى، يبدو الداخل أكثر قربًا من الحقيقة، وأكثر شرعية في التعبير عنها. هذا صحيح جزئيًا. لكن ما يُغفَل غالبًا هو أن الخارج، على الرغم من آلام التهجير والشتات، بات يمتلك أدوات قوة ناعمة لا يملكها الداخل: حرية التعبير، الأمان الشخصي، إمكانية الوصول إلى الإعلام، المؤسسات الدولية، التمويل، فرص التعليم والعمل، وحتى الحق في الحلم بمستقبل لا تحكمه الفصائل والسلاح أو العوز اليومي.

بات الخارج، دون قصد، ناطقًا رسميًا باسم الداخل. لا لأن الداخل اختاره، بل لأن السياق العالمي اختار ذلك. صار صوت الخارج أعلى، لا لفرط صدقه دائمًا، بل لأن أدوات تضخيم الصوت موجودة بين يديه. وصار الداخل يُستدعى كصورة، كشهادة، كحكاية، ولكن نادرًا ما يُمنح موقعًا مساوٍ في إنتاج القرار أو التأثير فيه. ما يُقال عن الامتيازات الجندرية أو الطبقية يمكن تطبيقه هنا. اللاجئ المثقف، المتعلم، الناطق باللغات الأجنبية، المتصل بالشبكات الأوروبية أو الأممية، يتمتع برأسمال رمزي هائل، يُستثمر عادة باسم “القضية”. بينما الداخل، الذي ربما لا يملك سوى نجاته اليومية، يُنظر إليه بعين التعاطف لا بعين الشراكة. هذا لا يعني أن الخارج لم يعانِ، أو أن حياة اللجوء ليست قاسية. لكنها بالرغم من قسوتها تفتح إمكانيات لا تُتاح لغيره. في حين يُطلب من الداخل أن يصبر، أن يتحمّل، وأن يقبل بقرارات تُتخذ في اسمه دون أن يُستشار. وهنا يظهر الامتياز في أبعاده الأخطر: حين يتحول من حماية للفرد إلى أداة لتقليص شرعية الآخر.

نحن أمام مشهد غير متوازن: الخارج يُنتج سرديات الداخل، والمنفى يُعرّف الثورة، بينما الداخل يُعاد تأطيره كحقل لتطبيق هذه السرديات، أو كمرآة لإثبات صحتها. هكذا، يتحول الامتياز إلى سلطة رمزية جديدة، قد لا تُدرك نفسها كسلطة.

أن تكون من الداخل لا يمنحك دائمًا الفهم، وأن تكون من الخارج لا ينزع عنك الألم.

الأمر لا يقتصر على الخارج مقابل الداخل. بل هناك أيضًا امتياز البقاء أمام الخروج، وامتياز “الاختيار” أمام “الاضطرار” اللاجئ الذي تمكن من المغادرة عبر ممر قانوني، أو الذي نجح في الاستقرار والتأقلم، يختلف موقعه عن أولئك الذين غادروا تحت القصف دون أوراق أو شبكات دعم. اللاجئ في ألمانيا ليس كاللاجئ في مخيمات البقاع أو في مدن الجنوب التركي أو في شمال الأردن. والداخل الذي اختار البقاء لأسباب شخصية أو سياسية ليس كمن فُرض عليه أن يبقى. الامتياز هنا يتجسد في إمكانية الحكي، في إمكان السيطرة على السرد، وفي مساحة القرار.

حين نقول “امتياز”، لا نعني بالضرورة امتلاك المال أو الراحة. بل نعني تلك المساحات التي يُمنح فيها شخص ما خيارات أكثر، وصوتًا أعلى، وحصانة أكبر من القمع أو التهميش أو النسيان. ولهذا فإن مواجهة الامتياز تبدأ بالاعتراف به، لا بالتنصل منه.

علينا أن نسأل أنفسنا: كيف يمكنني أن أستخدم امتيازي  كمن يعيش في الخارج، أو كمن يُسمع صوته أكثر دون أن أُقصي من لا يملك ذات الإمكانية؟ كيف أُفسح المجال لسرديات لا تمر عبر لغتي، أو منظوري، أو سيرتي الذاتية؟ كيف أكون حليفًا دون أن أفرض تمثيلًا؟ وكيف أُنصت دون أن أُعيد قول ما سمعت على طريقتي؟

إن إحدى أخطر تبعات الطغيان هي قدرته على أن يستمر من خلال من قاوموه، إن لم يُفكك من جذوره. والتفكيك لا يعني فقط إسقاط الديكتاتور، بل إسقاط المنظومة التراتبية التي تجعل بعضنا يتكلم باسم الآخرين، أو يُحتفى به لأنه “يشبه الغرب” أو “يفهمهم أكثر”، بينما تُطوى حكايات الداخل في الأدراج.

في النهاية، لا يُطلب من أحد أن يتنازل عن حياته أو أن يعتذر عن نجاته. بل يُطلب فقط أن ننتبه إلى السياق، إلى الموقع، إلى الاختلاف، إلى تباين الإمكانيات، وأن نستخدم هذا الوعي في بناء علاقة جديدة، لا تقوم على تمثيل الآخر، بل على خلق مساحة مشتركة للعدالة، يبدأ فيها كلٌ من موقعه، دون أن يلغيه.

ولأني لا أسعى إلى تنظير واسع حول الامتيازات، بل إلى تذكير بسيط بوجودها، فإني أطرح الأمر كدعوة شخصية، منّي إلى نفسي ومني إليك، بأن نتوقف لحظة قبل كل ردة فعل، كل حكم، كل تصرف. لنسأل: من أين أنطلق؟ ما الذي يمنحني الثقة أو الجرأة أو الصوت؟ وهل يملك الطرف الآخر ما أملك؟ أم أنه محروم من ذات المساحة التي أتحرك فيها بحرية أو من امتياز امتلكه أنا؟

في كل قرار، هناك امتياز خفي يتحرك في الظل. لحظة وعي به قد تنقذ علاقة، أو تحقن دمًا.

لا يتعلق الحديث هنا بتجريم من يمتلك الامتياز، بل بفهم تموضعه. الامتياز لا يعني أنك لم تتألم، أو أنك لم تُعانِ. بل يعني أن جزءاً من العالم يُعامل وجودك على أنه طبيعي، مشروع، يستحق الحياة. بينما لا يُمنح هذا الامتياز للآخرين بنفس السهولة.

المطلوب إذاً ليس جلد الذات، بل لحظة وعي. لحظة نقف فيها، كلٌ في موقعه، لنسأل: ما الذي أُتيحت لي فرصته دون أن أطلبها؟ ما الذي حُرم منه الآخر فقط لأنه لا ينتمي لنفس دائرتي؟ وكيف أُعيد توزيع المساحة، لا كمنّة، بل كتصحيح لمسار؟

ما بعد الطغيان لا يعني نهاية السلطة. بل غالباً ما يكون لحظة ولادة سلطات جديدة. من هنا، لا يكفي أن نسقط النظام، بل أن نسقط من داخلنا تلك القواعد التي تحاول واعية أو من دون قصد إعادة إنتاجه بأسماء وأقنعة جديدة.

الامتياز ليس وصمة، بل مسؤولية. وإذا أردنا فعلًا إعادة بناء سوريا، فلن يكون ذلك فقط عبر إسقاط نظام واستبداله بآخر، بل عبر إعادة النظر في علاقتنا بالسلطة، وبالآخر، وبأنفسنا. لأن الطريق إلى العدالة يمر أولاً بالاعتراف: أين أنا من هذه البنية؟ وأي امتياز أمارسه بصمتي أو بكلمتي دون أن أدري؟