من قامشلي إلى زورافا

 عندما تصبح الزيارة إلى دمشق، التي لم أفهمها بعد، إقامة

أبلغ اليوم الحادية والثلاثين من عمري، ولا تزال العواصم، كلها، عصية على الفهم لديّ. المدن المتناقضة كانت، ولا تزال، محطات مؤقتة بالنسبة لي. أحاول استيعاب وفهم دمشق، كما حاولت سابقاً، وحتى اليوم أفشل، لأنني ابنة المدينة الصغيرة التي تغلق أسواقها عندما يرتفع الدولار، ويرتبك سكانها وتضطرب حين تستهدف مسيّرة تركية شارعاً حيوياً. لأنني ابنة الخيارات المحدودة والمؤطرة، وابنة “وحدة الحال” النسبية، لذا يؤرقني اختيار دمشق كوجهة عمل، ولا يزال.

ولأننا لم نملك رفاهية تسجيل وتوثيق ما نشاهده سابقاً، ولأنني وعدت نفسي أن أوثق أيامي، أسجل اليوم وأكتب في غمرة يوم 8 كانون الأول/ديسمبر، في سهرة اليوم وسكرته، قررت الكتابة.

سكنت شهراً في وادي المشاريع، المنطقة التي بُنيت بالغصب قبل أكثر من خمسين عاماً، ولم يظهر فيها “العلم الأحمر”، على الأقل في الأعوام ال 10 الأخيرة كتحدٍ أو للتذكير على أننا قطعة من هناك، ظل العلم موجوداً كرمز فقط على حاجز الدخول، مرسوماً على جدار متهالك. عشت بين أهالي قامشلي، عفرين، ديريك، دير الزور، وبعض من منكوبي الشام، مع جدتي التي كان انتقالها إلى دمشق عام 2015 قراراً اجتماعياً بالدرجة الأولى، للعيش مع خالي الذي افتتح عيادته السنية هناك. جدتي التي، ومنذ وصولها، تلخّص دمشق بجملة واحدة: “السوق تحت البيت”، مختصرةً العاصمة كلها بالاسم الكردي للحي “زورافا”.

دمشق، أو على الأقل الأجزاء التي رأيتها في يوم الجمعة 3 كانون الثاني لم تكن قد تجاوزت نشوة “هرب بشار” و”يلعن روحك يا حافظ” بعد.

“متل أحلام العصر”  قلت لأصدقائي الذين رافقوني في الرحلة البرية، وهنا يحتاج الأمر لبعض السياق والشرح، فأنا لا أكتب لأخبركم بما تعرفونه مسبقاً، بل لأتعلم، ولأتذكر لاحقاً، ولأكون وفيةً لذاكرتي، أبدأ من هنا.

لم أتجاوز بعدُ القدر الساخر الذي جعلني أوصل عائلة عمتي إلى مطار القامشلي يوم 7 كانون الأول، متجهين نحو دمشق للعلاج، حينها كانت الحياة متسارعة، وأي غفوة عن متابعة عواجل الشاشة قد تكلفك محافظة. مازلت أذكر حين طلب منا آخر عسكري على آخر حاجز أن “أكرمه”، وكانت آخر 2000 ليرة أخسرها لصالح منظومة الرشوة الغريبة والمعقدة في سوريا. ولم أنسَ آخر مرة يمنّ فيها “أبو إسكندر” – الذي يتباهى بـ”13 سنة خدمة مطارات” – بعلاقاته مع أكبر الضباط هناك.

ولم أتجاوز بعدُ، كذلك، القدر الساخر الذي أجبرني على العمل في دمشق، أنا التي اعتادت التفاخر بقدرتها على امتصاص المدن الكبرى حتى الغرق، فما بالك بمدينة غارقة أصلاً في الأسئلة؟

حياةٌ معلقةٌ بـ”إذا صار ما صار”.

كانت المكالمة الأولى، يوم 9 كانون الأول، لصديق في أربيل. قلت له: “بدي بيت إذا صار ما صار”. بحثت عن أوراقي الثبوتية، عن كل ما يهمني، وأخبرت أصدقائي أن أهلي وكلبتي هم الركاب الوحيدون الذين سيرافقونيي في رحلة الهرب المقررة.

لمَ الهرب؟ لأني من شمال شرق البلاد، من القامشلي تحديداً، نشأنا على قناعة أننا استثناء من كل ما يحصل في سوريا. كما كنا استثناءً لسنوات في مناقشة وضع البلاد وتقرير مصيرها. بالنسبة إليّ، كانت تلك النقاشات دائماً عبثية، مصحوبةً بسيناريوهات غريبة غرابة التداخلات الداخلية والخارجية في سوريا، أقرب للصراخ في جلسات آمنة، تنتهي عادةً بجملة: “إذا صار ما صار”.

في الثالث من كانون الثاني، توجهت إلى دمشق. شاركت أرقام من كانوا معي في الرحلة، وقلت لأهلي: “إذا صار ما صار بتحكوهون”. فأنا ابنة البدائل التي لم تحظَ برفاهية اتخاذ القرار الأساسي، أتجه نحو المجهول غير المستساغ.

في الطريق، سألت نفسي مليون مرة وأنا أرى أيقونات الديكتاتوريات المصغّرة التي أرعبتني لسنوات. حواجز الرابعة، والجويّة، والأمن السياسي، فارغة من كل شيء إلا من الكائنات التي أحبّ: الكلاب التي أوزع عليها بقايا الطعام، سألت نفسي مراراً: “أنا لوين رايحة؟”

دمشق بين مشهدين

على الطيف المعقد الذي يُسمى سوريا، هناك سرديتان أصادفهما على التواصل الاجتماعي ويتشابكان: الأولى قصة الموت المستمر الذي لم يتوقف رغم رحيل بعض الطغاة، لأن بعضهم الآخر ما زال طاغياً وآمناً. والثانية قصة “الحالة الشامية النمطية”، العراضة في قهوة الروضة على أنغام “مندوسهم”، صورة تشبه ما حاربه السوريون لسنوات، وما روّج له “قبنّض” عن التاريخ السوري في “باب الحارة”.

في حين يحتفي أصدقائي على إنستغرام بذكريات كانون الثاني: سيلفيات السنة الجديدة، مشاوير عائلية، مناظر طبيعية، وصور سياحية لمن استطاع إليها سبيلاً. أما أنا، ولأنني من كثافة المشاهد لم أستطع تصوير أي مشهد، اكتفيت بصور ذهنية لا تستطيع إيصالها أي عدسة.

1- علوش على الحاجز

    على الحاجز المؤدي لوادي المشاريع، يحتار القائمون عليه أي علم يعتمدون، “الأبيض” الذي كُتب عليه لا إله إلا الله، أو “الأخضر”. يوماً يضعون الاثنين بأحجام متماثلة، وآخر بأحجام متباينة، ومرة يضعون أحد العلمين دون الآخر.

    شاب ملثم ضخم وعضلاته بارزة يقف عند مدخل وادي المشاريع، أمرّ في اليوم الأول من الحاجز مع أحد أفراد عائلتي المقيمين في الحي، يناديه “شلونك علّوش”، يرد الشاب بحماس من تحت اللثام “يا هلا”. بعدها بأيام، أعبر الحاجز وأنا في “المكيرو”، يصيح السائق للشاب الملثم “حبيبنا علّوش”، يرد الشاب بالحماس نفسه “لك أهلين بالغالي”. بعدها بأيام أعبرُ، لأجد الشاب قد قرر الاستغناء عن التظاهر بالغموض وأزال اللثام، إذ لم تساعده أيّة أشكال من التنكر والجدية في منع أهل الحي من معرفته.

    2- المقاطعة … ماذا عن تركيا؟

      لا يخفى عن أحد كمية البضائع المستوردة  والمهربة التي تباع على بسطات دمشق، في البرامكة ينادي البائع “عالتركي”، وعلى أمتار منه ينادي الآخر “عالأجنبي”، وبالحس الصحفي الذي أنوي أن يتركني وشأني في هذه التعقيدات، أبحث عن عبارة “غير مخصصة للبيع”، أحاول في قرارة نفسي اتهام التجار بالسرقة لأني اعتدت، كإبنة الطبقة الوسطى الدنيا، أن الغني يسرق الفقير ومخصصاته، وفشلت في محاولاتي غير الحثيثة في إثبات سرقة المساعدات حتى الآن.

      أمر بجانب “بسطة” كما هو الاعتياد في هذه الأيام، ليسألني أحد الأصدقاء المرافقين في المشوار “شو برأيك فينا نعمل مشان المقاطعة”، أنا التي أقاطع أصدقاء افتراضيين وقنوات تلفزيونية وصحف ومراسلين/ات لممارستهم/ن كراهية معلنة ضد الكرد، أسأله “مقاطعة شو”، فيجيبني بحسه اليساري المتوقع “بضائع المقاطعة” في إشارة للبراندات/الشركات التي دعمت الحرب ضد المدنيين/ات بفلسطين.

      مؤرق الشرح، ويحتاج تدوينة خاصة ربما! لكنني أسأله عن البضاعة التركية، أنا التي كان سقف مقاطعتي هو مقاطعة “بيرا إيفيس”: أليست البضاعة التركية أجدر بالمقاطعة لأنها محتلة لوطنك؟ دون الدخول في تفاصيل الاتفاقية التجارية، أجد نفسي قد تحولت لكائن فضائي مختلف عن نمط “المقاطعة”، ولو أنه لا مانع من مقاطعة الاثنين والاكتفاء بـ”الوطني”!

      3- عدالة!

        في جلسة شبابية شبه رسمية، اتفق القائمون عليها أن نناقش موضوعاً من أربعة، وأنا التي اسمي نفسي الآن “مايسترو تايتانيك”، عازف الكمان في السفينة الغارقة، المصصمة على الحديث عن العدالة، أدخل مع مجموعة تُملئ قاعة كبيرة، إلى جلسة معنية بالعدالة الانتقالية، وكعادتنا في المساحات المدنية التي تصّر على أنها جزء من التغيير، ننقسم لمجموعات مكثفة، لنناقش كلّ منا رؤيته/ا للموضوع المعنيين به.

        على الطاولة معي، شاب في أواخر العشرين من إحدى المحافظات السورية التي عانى أهلها من التهجير، وبينما يكون الحديث على الطاولة عن أهمية المصالحة، التي يجب أن أبرر أنها لم تكن عن “تبويس الشوارب”، ينتفض الشاب ليقول “إذا شفت الزلمة يلي ساكن ببيتي ممكن أقتله”، ولا جدوى من محاولات إقناعه، من قبل أكثر من 6 أشخاص على الطاولة، بمسارات العدالة. أتدخل وأسأل: “لكن ماذا عن الحقيقة؟ ماذا عن كشف ما حدث؟”، يرد الشاب “أنا بعرف الحقيقة، الحقيقة أني تهجرت، وأنه ساكن مكاني!”.

        4-  البوح

          كنت أنتقد البوّاحين، وإذ أجد نفسي وأنا أكتب إنني منهم، الفارق الوحيد بيننا هو أداة البوح، أنا أكتب، وهم يتكلمون.

          أحبس الكلمات منذ وصولي إلى دمشق، فأنا إبنة البيت الذي تربينا فيه على ال Low Profile، لا أحد معني بمعرفة عملي، أفكاري ولا توجهاتي، كلها أحتفظ بها لنفسي بناءاً على نصيحة أهلي، لكنّ البوح هنا في أقصى مراحله، مرافقاً لصكوك الحقيقة التي يفرضها المحيط عليك، حقيقة كيف تتصرف ودرجة مشاركتك لما تؤمن به.

          دون سؤال، يشارك معي كل سائقي التكاسي قصههم، أحدهم قصة ظهور اسمه في قائمة الاحتياط قبل السقوط بأيام، والآخر يسرد قصة هروبه من التجنيد واختبائه، والثالث قصة إعدام أحد أقاربه في “مكبس صيدنايا” في مشوار كانت أزمة المرور من نصيبه، ومن أنا وسط كل هذا، لأروج للحقيقة وأنسف القصة التي آمن بها؟ وأنا المؤقتة في حياته.

          ودون الحاجة لأن يسألني أحدهم أو إحداهن عن حالي، أشارك مع كل من أعرفهم وكل من عرفتهم في دمشق، قصتي مع الخوف، مع الكره والتنميط الذي أواجهه ومع الفشل والمسؤولية، قصتي مع محاولات إحداث فرق في وطن على الأغلب وبالمنطق “مو فرقان معو” لا من أنا، ولا ما هي مخاوفي. في وطن يقوم بتنميطي وتاطيري، الأغلب فيه يقومون بتنميطي بسبب حرف الV  في اسمي على أنني من أصحاب المشاريع “غير الوطنية” -وهذه ألطف العبارات- خاصة حين أكمل اسمي بمكان سكني المؤقت “بيت ستي بزورافا”. ولأن القدر لا يكف عن السخرية من نمط حياتي، أعيش اليوم مع صديقتي في المنطقة التي لا تقل تعقيداً … في ال 86.