” الكتابة عن تجربة سياسية نضالية معارضة مهزومة بالقمع، وتوثيق هذه التجربة هي مساهمة في حمايتها من الضياع أولا ثم من التشويه الذي تمارسه آلة ضخمة من الإنتاج الكتابي الذي لا يحفظ من التاريخ سوى النسخة التي تبدو للعين المسيطرة، عين السلطات الغالبة، فيما تذهب إلى العدم رواية المغلوبين، ونسختهم من التاريخ. من الإنصاف للتاريخ وللأجيال القادمة أن يتولى المَغلوبون أيضاً سلطة الراوي، أن يُروى التاريخ من موقعهم وكما يظهر في عيونهم، انتشال التجارب النضالية من النسـيان والضياع والتشويه، يساعد الأجيال القادمة على تَمثل دروسها وعلى فهم مجتمعهم بصورة أفضل وتجاوز أخطاء دُفع ثمنها غالياً، ويساهم في ترجيح احتمالات أفضل للمستقبل.”
هذه كانت مقدمة كتاب قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا لراتب شعبو، الذي وجدته في مكتبة “خان الجنوب” في برلين، عند قدومي إلى المدينة العام الفائت للعمل على مشروع بحثي حول الذاكرة الجمعية للفنانين السوريين المنفيين، وتأثير العيش تحت نظام ديكتاتوري وشمولي كحكم عائلة الأسد، على تجاربهم في المنفى بعد مرور أربعة عشر عامًا على انطلاق الثورة السورية.
اقتنيت هذا الكتاب لأنني، وبمحض الصدفة، وجدته خلال أولى زياراتي للمكتبة، وصُدمت حين رأيت اسم والدي بين لائحة المعتقلين. والدي، الذي رحل عن هذا العالم بسبب سكتة قلبية قبل أربع سنوات، كان قد اعتُقل لثماني سنوات في سجون النظام خلال ثمانينات القرن الماضي، بسبب نشاطه السياسي. غيابه جعلني أفقد فسحة الأمل في أن يأتي يوم نتحدث فيه معًا عن تجربة اعتقاله التي لم يخبرني عنها إلا بشذرات قليلة.
وجودي في برلين لدراسة موضوع المنفى والذاكرة، كان دافعه الأساسي هو تجربتي الشخصية: كوني أنتمي إلى عائلة ذات تاريخ سياسي، اعتُقل وسُجن معظم أفرادها تحت حكم الأسد الأب والابن.
تجربتي كابنة لمعتقل سياسي سابق، ولقائي لاحقًا بأشخاص عاشوا تجارب مشابهة بعضهم فقد أحبة تحت التعذيب، وبعضهم لا يزال مصير أحبّته مجهولًا جعلتني أكثر إيمانًا بأهمية العمل الجماعي في التقصي وجمع وتوثيق القصص الشخصية، وخلق سرديات تعكس تجربة السوريين تحت حكم عائلة الأسد، وفي المنفى لاحقًا.
أما بعد السقوط المفاجئ والسريع للأسد، فقد بات العمل على الذاكرة الجمعية ضرورة مُلحّة، في محاولة لفهم هويتنا كمجموعة، والسعي نحو إعادة صياغة هوية جمعية تعبّر عنّا كسوريين، وتؤسس لعدالة انتقالية مستقبلية.
“الذاكرة هي صراع على القوة، وعلى من يقرّر مصير المستقبل. ما تختار المجتمعات أن تتذكره أو تنساه، يحدّد بشكل كبير خياراتها المقبلة.”
هكذا يطرح كتاب الذاكرة السياسية مفهوم الذاكرة والعدالة الانتقالية في سياق ما بعد الاستبداد أو الصراع، مؤكدًا على ضرورة ابتكار أدوات محلية ووطنية لنقل الذاكرة، باعتبارها إحدى وسائل التعافي من الصدمات التي خلّفتها انتهاكات حقوق الإنسان، من خلال إعطاء صوت لمن همّشتهم السلطة.
حين قدمت إلى أوروبا لدراسة الماجستير في الأنثروبولوجيا الثقافية، كنت أطمح إلى التعمق في دراسة مفاهيم الذاكرة، والتناسي، والتعافي الجمعي داخل الشتات السوري. لم يخطر ببالي أنني، قبل أن أنهي بحثي، سأكون شاهدة على حدث بحجم هروب الأسد، وسأجد نفسي جزءًا من المرحلة الانتقالية، أو ما يصفه عالم الأنثروبولوجيا فيكتور تيرنر بـ”الفضاء الانتقالي” (liminal space)
طوّر تيرنر هذا المفهوم لوصف المرحلة الفاصلة في الطقوس والممارسات الثقافية لدى المجتمعات والجماعات، وهي حالة يغادر فيها الفرد أو الجماعة وضعهم القديم، دون أن يكونوا قد بلغوا حالتهم الجديدة بعد. إنها لحظة “ما بين بين”، تُفكك فيها الهويات والهياكل الاجتماعية تمهيدًا لمرحلة إعادة التشكيل.
ولأنها حالة غير مستقرة، حيث انهارت البُنى القديمة ولم تُبنَ البدائل بعد، فإن إمكانات التحول الجذري هوياتيًا، سياسيًا، واجتماعيًا تكون في ذروتها. وهذا تمامًا ما نشهده في سوريا الآن بعد رحيل الأسد: نحن نعيش لحظة انتقالية، مفتوحة على احتمالات التغيير، ويمكننا من خلال جهودنا الفردية والجماعية أن نعيد تعريف هويتنا كسوريين، ونفكك تلك الهوية المهشّمة التي فرضها النظام طيلة عقود.
فرض حكم آل الأسد، على مدار عقود، هوية جمعية وحيدة للسوريين، محصورة في علاقة عمودية بين “الشعب” و”القائد”. فالنظام الشمولي الذي أسسه حافظ الأسد ثم رسخه ابنه، جعل من تقديس القائد حجر الأساس في العلاقة بين الدولة والمواطن، حيث لا يُطلب من الفرد سوى الولاء، ويُختزل البلد في شخص الحاكم.
من خلال سياسات منهجية، سعى حافظ الأسد إلى تفكيك البنى المجتمعية، وتعزيز الشعور بالخوف المتبادل بين المكونات والمناطق، مما يضمن ولاء الأفراد له كأفراد معزولين، لا كمجتمع موحد. ولتعميق الانقسامات، روّج النظام الأب ثم الابن لسردية أنه “حامي الأقليات”، مستعيرًا بذلك خطاب الاستعمار الفرنسي الذي استخدم الحماية كذريعة لتكريس الهيمنة.
عبر هذه السياسات، جرى تعميق الانتماءات المناطقية والطائفية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وتهميش مدن ومحافظات بكاملها لصالح تعزيز مركزية السلطة في دمشق. وتزامن ذلك مع فرض سردية رسمية واحدة، تمنع أي نقاش أو توثيق للانتهاكات، من مجزرة حماة عام 1982، إلى جرائم النظام بعد الثورة في عام 2011، وصولًا إلى ما ارتُكب في أقبية السجون مثل صيدنايا وتدمر السجن الذي دمّرته داعش عام 2015، مما أدى إلى خسارة قسم كبير من الوثائق والأدلة على الجرائم المرتكبة هناك.
في هذا السياق، يشير ديرالد وينغ سو، في كتابه الحديث عن العرق ومؤامرة الصمت: فهم وتسهيل الحوارات الصعبة حول العرق، إلى أن الرقابة الثقافية والموضوعات المُسكَت عنها غالبًا ما تكون متجذّرة في عمق الثقافة، ومدعومة بالرقابة الذاتية. وهذا بالضبط ما حدث في سوريا، حيث فرض النظام الرسمي التناسي، وعزّزه الخوف والصدمات وغياب المساحات الآمنة للسرد والتوثيق.
نتيجة لذلك، بات السوريون يملكون ذاكرة مجزأة، محصورة ضمن جماعات خاضت تجارب مختلفة ضمن سياقات جغرافية وسياسية متباينة، بفعل سياسة التقسيم والتفكيك التي اتبعها النظام. وغالبًا ما فضّلت هذه الجماعات الصمت، إما حمايةً للذات أو لغياب القدرة على التعبير، وهو ما أدى إلى شلل في بناء ذاكرة جمعية، وإلى غياب التضامن والعدالة المتبادلة.
تحت هذه الظروف، تحوّلت الهوية السورية إلى انتماء قسري، هش ومفكك، تغذّيه الخوف والتهديد، وتفتقر إلى رؤية وطنية جامعة تقوم على المواطنة. ومن هنا، تبرز الحاجة المُلحّة إلى إعادة تخيّل الهوية السورية، وبنائها على أسس جديدة تقوم على العدالة، وحقوق الإنسان، وحق الاختلاف.
إن إنتاج سرديات جديدة، وفتح المجال أمام سرديات بديلة، لا يساهم فقط في فضح فظائع النظام وغيره من الأطراف المتورطة، بل يُشكّل أيضًا خطوة نحو خلق إمكانيات جديدة للانتماء، في لحظة انتقالية قد تتيح إعادة تعريف الذات السورية، خارج إطار السلطة التي صادرتها لعقود.
تقوم الهوية الجمعية على الانتماء من خلال التجارب المعاشة والتضامن والممارسات والقيم المشتركة بين مجموعة من الافراد، وأشكال هذه الهويات في حالة دائمة من إعادة التعريف، والتأكيد والتفاوض والتفاعل بين أفرادها. بينما توصَف الهوية الوطنية بالانتماء إلى مجتمع سياسي مُتخيل مُتجذر في أصول وثقافة وتاريخ مشتركين ووجود هوية وطنية جامعة مبنية على أسس دينية او عُرقية غالباً ما تؤدي إلى خلق بيئة متطرفة وعنصرية لمجتمعات وهويات أخرى. ومن هنا يمكن لسياسات الذاكرة إما أن تكون شاملة وتتيح تفاعل ذكريات مختلفة مع بعضها أو إقصاء وجود سرديات بديلة للماضي. فالسماح بوجود حوار مع السرديات البديلة من تجارب مختلفة للأفراد في حالات النزاع والحروب وواقعهم المعاش بفترات ما بعد النزاع يساهم في تشكيل آليات أوسع واكثر شمولية للاحتفاء بالذكرى لترسيخ الذاكرة الجمعية من خلال الاحتفالات السنوية والنُصب التذكارية، والرموز والسرديات الرسمية والبديلة.
الإشكالية في تشكيل هوية جمعية يمكن ان تؤدي إلى خلق هوية قمعية واقصائية للهويات الأخرى البديلة. فمفهوم الهوية هو تحديد ملامح وخصائص الهوية الأخرى المقابلة المختلفة (us vs them)، لهذا مهما حاولنا تشكيل هوية جامعة فسيكون هنالك دائما فئة أو فئات مهمشة ومنسية. وغالبا ما تُستغل الهويات سياسيا لحقن الأفراد بإيديولوجيات معينة، مُتطرفة في اغلب الأحيان. في روندا، فرضت الدولة رواية رسمية لماضيها واستثنت وجود ذاكرة متعددة للإبادة الجماعية عام 1994 وتبايُن فَهم الجماعات الاجتماعية منها والسياسية لأسباب العنف. فهيمنت الرواية الحكومية لطبيعة الفظائع وذكراها من خلال حظر أي روايات مُخالفة بموجب القانون لأن وجود هكذا روايات قد يسبب تعزيز الانقسامات والإنكار للإبادة الجماعية.
ولكن في السياق السوري الحالي، هناك حاجة لمحاولة تشكيل هوية جامعة وغير مُفككة كسابقتها تكون مظلة تشمل هويات جمعية محلية متعددة ومبنية على السماح بتشارك جميع الافراد على خلاف خلفياتهم وإشراك الفئات المُهمشة ومحاولة بناء هذه الهوية الجمعية على أسس المواطنة والتفاعل الفعّال الدائم بين الأفراد.
“كيف لدولة أن تتذكر ماضيها الذي سيشكل إمكانيات المصالحة وشكل العنف المستقبلي. غالبًا ما تُشكل مشاريع الذاكرة الوطنية سياسات الهوية الجماعية الوطنية، وعمليات العدالة الانتقالية، وإعادة الإعمار بعد الصراع.”
يشرح دنكان بيل في كتابه الذاكرة والصدمة والسياسة العالمية كيف يمكن للتذكر أن يكون مشروع سياسي واجتماعي وأساسي للمصالحة والتعافي للبلاد في فترات ما بعد الصراع وتخيل مستقبل هذه الشعوب. فالعدالة الانتقالية تُقدم منظوراً اجتماعياً وقانونياً للنظر في الذاكرة كوسيلة لفهم ومعالجة الإرث الجمعي للفظائع.
لكن من الضروري تجنب الإفراط في التذكّر حتى لا نبلغ مكاناً يُحلل الأفعال الانتقامية والكراهية. فبينما فعل التذكر حق للضحية للاعتراف وكسب شرعية لتجربتها من أجل الانتقال السلمي والصفح عن الماضي وبين تجاهل ذاكرة الضحايا وفرض التناسي ليصبح فعل التذكر فعل مقاومة ضد النسيان القسري الممارس. أما التناسي البناء (Constructive Forgetting) الذي يهدف لطمس أجزاء من الماضي وعدم التحدث عن الانتهاكات التي جرت للتعجيل من الانتقال السريع يصب في مصلحة الناجين من المحاسبة لا الضحايا مما يمنع من حدوث أي سلم مستدام وانما سلم مؤقت وهش.
لهذا هناك ضرورة للموازنة ما بين التذكر والتناسي، ما بين قص حكايات الضحايا دون خزل المجتمع لهويتين لا ثالث لهما وهو الضحية والجلاد. فعقدة الناجي أو الضحية قد تؤدي أيضاً للانتقامات والمزيد من العنف والثأر المُبررين. ضرورة خلق مساحة للذاكرة والسرديات التعددية للماضي حتى بتناقضها شرط الا تُلغي واحدة الأخرى يمكنه ان ينقذنا من هذا السيناريو وتجاوز احداث الماضي بوعي جمعي.
“نفهم الذاكرة كعملية سردية لبناء معانٍ عن الماضي، سعيًا لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.”
يقول المؤرخ الفرنسي بيير نورا:
“الذاكرة حياة، تحملها مجتمعات حيّة نشأت باسمها. وهي في تطور دائم، مفتوحة على جدلية التذكّر والنسيان، غافلة عن تشوّهاتها المتتالية، عرضة للتلاعب والاستيلاء، وقابلة للخمول الطويل والتجدد دوريًا.”
بهذا المعنى، فإن الذاكرة ليست مجرد استدعاء للماضي، بل فعل جماعي ثقافي واجتماعي، دائم التحوّل، ويمكن أن يكون عرضة للاستغلال والشرعنة وتثبيت هيمنة السلطات. كما يمكن أن تُمارس عبرها آليات تهميش ممنهجة لسرديات فئات أو مجتمعات معيّنة، لصالح قوى سياسية أو سلطات قائمة، ما يؤدي إلى سلب الضحايا حقهم في امتلاك روايتهم، ويحوّل معاناتهم إلى أدوات تُستخدم لأغراض أخرى، مما يُبقي النزاع والعنف قائمَين ولو بوسائل رمزية.
لهذا، يصبح من الضروري الاستفادة من تجارب مجتمعات أخرى خرجت من النزاعات، لفهم آليات العدالة الانتقالية التي حاولت أن تُعالج ماضيها بطرق تتناسب مع تعقيداتها الخاصة. فكثير من هذه المجتمعات ما تزال حتى اليوم تواجه تحديات في تحقيق العدالة والسلم الأهلي، وتحاول باستمرار تطوير نماذج تتماشى مع واقعها المتغير.
في حالة البوسنة والهرسك، على سبيل المثال، أدّت هيمنة خطابات قومية راديكالية، وحصر الهوية الوطنية في دور “الضحية الدينية”، إلى تهميش سرديات جماعات أخرى. مثل هذه الدروس تُحذّر من خطورة بناء سردية واحدة مغلقة، تُقصي الآخرين باسم العدالة.
بالنسبة لسوريا، فإن الخروج من عقود الاستبداد لا يمر فقط عبر إسقاط النظام، بل عبر تفكيك بنيته الرمزية والمعرفية. لا شك أن نظام الأسد شكّل شكلًا من أشكال الاستعمار الداخلي، وهيمن على الذاكرة، والهوية، وصاغ الحاضر والماضي على مقاس سلطته.
لهذا، تُصبح إعادة بناء الذاكرة السورية مهمة مركزية في أي مشروع تحرّري. هذه الذاكرة يجب أن تتحرّر من الأجندات والتوجهات الأحادية، وأن تُفسح المجال لسرديات بديلة ومتعددة. فمن دون ذلك، لن نستطيع استعادة الأسس التي هتفت من أجلها الثورة السورية: الحرية والكرامة والعدالة للجميع.
لقد أتاحت لي رحلتي البحثية لقاء سوريين من مختلف أنحاء البلاد. ومن خلال هذه اللقاءات، أدركت مدى فرادة كل تجربة إنسانية، لكنني في الوقت ذاته شعرت بأن هناك خيطًا رفيعًا يربطنا: تجربة جمعية يصعب رسم ملامحها في ظل القمع والتشظي والانقسام بين سوريي الداخل والمنفى.
لكل منّا سياقه الخاص، لكن بالجهد الجماعي يمكننا البدء برسم هذه الملامح، وفهم ذواتنا وهوياتنا المشتركة بدقة أكبر. وجودي في برلين، إلى جانب سوريين في المنفى، وحديثنا عن ماضينا، كان فرصة حقيقية لبدء هذه العملية وإن كانت على نطاق ضيق.
هذه دعوة مفتوحة لنا جميعًا: أن نكون ناقدين، مشكّكين، نقرأ ماضينا وواقعنا بعين تفكيكية، لا لنحاكمه فقط، بل لنوقف دوامة العنف، ونطوي صفحة من تاريخنا الطويل تحت حكم ديكتاتوري امتد لعقود.
بما أنني اضطررتُ للتعرف على فظائع نظام الأسد ووحشيته منذ الصِغر، ورغبتي في فهم التجارب التي شكلت تجربة والدي كفرد وعائلتي لمحاولة فهم نفسي والتطور كفرد، وبما أنني فقدت فرصتي في معرفة التاريخ الذي أحمله معي، هناك كم من الأفراد الذين مازالوا يبحثون عن مصير أحبابهم الذين فُقدوا على يد نظام الأسد والأطراف أخرى ويعيشون واقع مختلف وخاص جداً ولهم الحق والأولوية بمعرفة مصير أحبتهم ومحاسبة الفاعلين.
حين وجدت اسم والدي في كتاب قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا، لم يكن ذلك مجرد لحظة شخصية عابرة، بل مفتاحًا لقراءة أكبر: عن كيف تُمحى النضالات، وتُنسى التضحيات، وتُغيب التجارب التي صمدت رغم كل أشكال القمع. كان هذا الكتاب، بما يحتويه من توثيق لتجربة سياسية نضالية تم إسكاتها، دليلاً ملموسًا على أن سردياتنا كأبناء وأحفاد مناضلين لا تزال موجودة، لكنها مهددة بالتلاشي أو التزوير ما لم نكتبها بأنفسنا.
في ظل الفضاء الانتقالي الذي نعيشه كسوريين اليوم لحظة “ما بين بين” كما وصفها فيكتور تيرنر يصبح توثيق هذه التجارب أكثر من مجرد وفاء للماضي، بل هو فعل مقاومة في الحاضر، ومساهمة في إعادة تشكيل المستقبل. ففي هذا الفراغ بين نظام قد سقط ولم يتبلور بديله بعد، يمكن لإعادة كتابة الذاكرة من مواقع المغلوبين أن تساهم في بناء سردية أكثر عدلاً، وأكثر صدقًا مع ما عشناه فعليًا.
الكتابة عن تجربة سياسية نضالية مهزومة بالقمع، كما يقول الاقتباس في مقدمة الكتاب، هي مساهمة في حمايتها من الضياع أولًا، ومن التشويه الذي تمارسه آلة ضخمة من الإنتاج الخطابي والرمزي، لا تُبقي من التاريخ سوى ما تراه “العين الغالبة” جديرًا بالبقاء. أما رواية المغلوبين، فسرعان ما تُدفع نحو العدم.
من هنا، تأتي أهمية أن يتولى هؤلاء “المغلوبون” أيضًا سلطة السرد، وأن يُروى التاريخ من موقعهم، وبعيونهم. ليس فقط لرد الاعتبار لهم، بل أيضًا لمنح الأجيال القادمة فرصة لفهم ماضيهم بشروطه، وتَمثل دروسه، وتجنّب أخطائه التي دُفع ثمنها غاليًا.
أن نكتب، إذًا، هو أن نحتفظ بما أراد له القامعون أن يُنسى.
وأن نُراكم هذه السرديات هو ما يجعل الأمل لا فقط بالمستقبل بل بعدالة الذاكرة، ممكنًا.
1- Taylor, V., and Whittier, N.E. (1992) Collective identity in social movement communities: Lesbian feminist mobilization. In: Morris, A., and Mueller, C. (eds), Frontiers of Social Movement Theory. Yale University Press, New Haven, CT.
2- Schmidtke, Oliver. 2023. Competing Historical Narratives: Memory Politics, Identity, and Democracy in Germany and Poland. Social Sciences 12: 391. https://doi.org/10.3390/socsci12070391
3-Johanna Mannergren, Annika Björkdahl, Susanne Buckley-Zistel, Stefanie Kappler, and Timothy Williams – 9781526178329 Downloaded from manchesterhive.com at 05/19/2025 11:00:01AM
via Open Access. CC BY-NC-ND https://creativecommons.org/licenses/by-nc-nd/4.0/
4- Johanna Mannergren, Annika Björkdahl, Susanne Buckley-Zistel, Stefanie Kappler, and Timothy Williams – 9781526178329Downloaded from manchesterhive.com at 05/19/2025 11:00:01AMvia Open Access. CC BY-NC-ND https://creativecommons.org/licenses/by-nc-nd/4.0/
5-Olivera, Rachel & Ubach, Teresa & Piper, Isabel. (2023). The Collective Memory of Literacy as a Place of Agency to Rethink being a Woman in the Cuban Revolution. 11.
6- Rawski, Tomasz. “The Persistence of National Victimhood: Bosniak Post-War Memory Politics of the Srebrenica Mass Killings.” Sprawy Narodowościowe. Seria nowa, no. 53, 2021, https://doi.org/10.11649/sn.2503