من تقديس الأسد إلى تقديس السلطة

خلال عملي كمدرّسة للتربية الرياضية في إحدى المدارس الحكومية، طُلب منا تدريب التلاميذ على أداء فقرات استعراضية ضمن احتفالات تنسيبهم إلى منظمة طلائع البعث. لم تكن هذه الفقرات مجرد أنشطة مدرسية عادية، بل كانت جزءًا من عملية منهجية تهدف إلى غرس الولاء في نفوس الأطفال منذ سن مبكرة، عبر ترديد الأغاني والشعارات الوطنية التي كانت في جوهرها تمجيدًا لشخص الرئيس لا للوطن.

كنت أراقب تلك المشاهد بعين قلقة. الأطفال كانوا يشاركون بفرح تلقائي، يلوّحون ويهتفون وهم يرقصون بحماسة. لكن خلف هذه البراءة، كنت أرى كيف يُعاد إنتاج الولاء، كيف يُساق جيلٌ كامل إلى تبنّي رموز دون أن يُمنح فرصة السؤال عن معناها. كان ذلك الشعور بالغصة هو ما دفعني، لاحقًا، إلى عدم تجديد عقدي في التدريس. لم أعد أحتمل أن أكون جزءًا من منظومة تُكرّس التبعية في ذهن طفل لم يبدأ بعد بطرح أسئلته الكبرى.

السلطة والثقافة المتأصلة

لم يكن تمجيد الحاكم في سوريا مجرد أداة سياسية عابرة، بل تحوّل على مدى عقود إلى نمط ثقافي عميق، تم ترسيخه في وعي الأفراد منذ حكم حافظ الأسد، وتضاعف حضوره مع بشار. هذه الظاهرة لم تقتصر على مؤسسات الدولة، بل تمددت إلى تفاصيل الحياة اليومية، حتى بات حب “الرئيس” يُعرض كمرادف لحب الوطن، في سردية أُنتجت عبر الإعلام، والمناهج، والشعارات.

لكن ما بدا لسنوات وكأنه ولاء طوعي، كان في كثير من الأحيان نتاجًا لحالة مركّبة من الخوف والتعوّد وانعدام البدائل. فعلى مدى أكثر من خمسين عامًا، تماهت صورة الدولة مع صورة الرئيس. الشعارات مثل “الأسد أو لا أحد” أو “الله، سورية، بشار وبس” لم تكن مجرد هتافات، بل تعبيرًا عن حالة ذهنية أُنتجت ببطء، واستقرت في وعي شرائح مختلفة من المجتمع.

ما يُثير القلق اليوم هو أن هذه البنية الذهنية لم تتفكك بعد، رغم كل ما شهدته البلاد. حتى بعد الثورة، وحتى مع تراجع رمزية الأسد، بقيت الحاجة إلى “قائد” تتكرر بصور مختلفة. وربما كان هذا التكرار دليلاً على أن المشكلة لم تكن فقط في شخص الرئيس، بل في نموذج السلطة الذي ترسّخ، وفي استعداد جزء من المجتمع، بفعل التراكم، لتقبل فكرة الزعيم كضامنٍ للنجاة، لا كموظف خاضع للمساءلة.

هنا، قد يبدو الحكم قاسيًا إن فُصل عن سياقه. فالمجتمع السوري، مثل كثير من المجتمعات التي عاشت طويلاً تحت الاستبداد، لم تتح له فرصة واسعة لتجربة أنماط أخرى من السلطة. ومن الظلم اختزال تفاعلاته في صيغة واحدة، أو التحدث عنه ككتلة متجانسة. لكن من المهم التوقف عند هذه المؤشرات، لا لإدانة الناس، بل لفهم ما ورثوه، وما قد يكون مطلوبًا لتجاوزه.

بعد الثورة لم يسقط التقديس، بل أُعيد إنتاجه

حين اندلعت الثورة السورية، حمل كثير من السوريين آمالًا واسعة بتفكيك منظومة الاستبداد التي تجذّرت لعقود. بدا، في لحظات كثيرة، أن زمن الزعيم الفرد قد ولّى، وأن الناس على وشك إعادة تعريف علاقتهم بالسلطة والدولة. لكن الواقع سرعان ما كشف عن تعقيدات أعمق: لم يكن الاستبداد مجرّد بنية أمنية، بل ثقافة راسخة يصعب اقتلاعها بين عشية وضحاها.

في مراحل لاحقة من الثورة، ظهرت مؤشرات على إعادة إنتاج نمط الولاء نفسه، ولكن بأسماء جديدة. ومع تغيّر الشخصيات السياسية، بقيت بعض الجماهير تتعامل مع رموز السلطة الانتقالية أو المعارضة كما لو كانت تجسيدًا لفكرة “المنقذ”، أو “القائد الضرورة”. وقد رُصدت شعارات تمجّد أسماء معينة بنفس اللغة العاطفية التي وُجّهت للأسد سابقًا، في مفارقة بدت صادمة للكثيرين.

لكن من الضروري ألا يُفهم ذلك كتكرار مباشر للولاء السابق، بل كدلالة على هشاشة البنية السياسية البديلة، وافتقار الناس لمرجعية مؤسساتية واضحة يمكن الاتكاء عليها. فحين يغيب الإطار القانوني والضامن، يُعاد تلقائيًا إحياء الحاجة إلى وجهٍ قويّ يبدو قادرًا على حفظ التوازن، حتى لو مؤقتًا.

وربما في هذا يكمن جوهر الأزمة: أن السوريين لم يثوروا فقط ضد حاكم مستبد، بل ضد منظومة فكرية تُقدّس السلطة ذاتها. ومع غياب البنية السياسية البديلة، وانعدام الممارسة الديمقراطية التاريخية، ظلّت الحاجة إلى “زعيم” أقوى من فكرة الدولة، وأقرب إلى فكرة الأمان.

من هنا، يمكن فهم هذا الميل لا كخيانة لقيم الثورة، بل كنتيجة لفراغ سياسي ونفسي هائل، ترك ملايين الناس في مواجهة سؤال معقّد: إذا لم يكن الأسد، فمن؟ وإذا لم تكن الدولة، فبماذا نستعيض عنها؟ وحتى اليوم، لم تُحسم الإجابة.

الإعلام والسيطرة على العقول

لم يكن الإعلام السوري مجرّد وسيلة إخبارية، بل أداة أساسية لصياغة الوعي الجمعي، وإعادة إنتاج علاقة الناس بالسلطة. فبدلاً من أن يكون فضاءً للحوار أو المساءلة، تم تحويله إلى منبر يروّج لفكرة الزعيم كركيزة لا غنى عنها لاستقرار البلاد.

لسنوات، ظل التلفزيون الرسمي، والصحف، وحتى المناهج التعليمية، تكرّس صورة الأسد كحامٍ أوحد للوطن. لم يكن ذلك يتم عبر تمجيد مباشر فحسب، بل من خلال إلغاء البدائل تمامًا. لم يُترك للمجتمع مجال لتخيل أن سوريا يمكن أن تُدار خارج ظلال هذا الرجل، وكأن سقوطه يعني بالضرورة انهيار الدولة.

وعندما اندلعت الثورة، استمر هذا النمط، لكن بخطاب أكثر شراسة. لم يناقش الإعلام أسباب الحراك أو مطالب الناس، بل أعاد تدوير الفكرة المركزية: “لا بديل عن الزعيم”، وكل معارضة تُختزل في صورة الفوضى. هذه السردية، التي أعيد ضخّها عبر الشاشات والندوات، ساهمت في خلق مناخ من الخوف والارتباك، وساهمت في إطالة عمر المأساة.

لكن اللافت أن هذا النمط الإعلامي لم يتوقف تمامًا مع تغير الوجوه. ففي بعض المنصات البديلة التي نشأت بعد الثورة، ظهر خطاب يكرر نفس البنية الذهنية: ربط مصير الجماعة بشخص واحد، والاكتفاء بتبديل الاسم دون مناقشة شكل النظام. وهكذا ظل الجدل محصورًا في “من هو القائد؟”، بدل أن ينفتح على سؤال أعمق: “كيف تُبنى سلطة مسؤولة؟”.

ما كشفته التجربة الإعلامية خلال الثورة وما بعدها، هو أن التحكم بالعقول لا يحتاج بالضرورة إلى رقابة صارمة أو أجهزة أمن، بل يكفيه خطاب مشحون بالعاطفة، يعيد صياغة الولاء على نحو ناعم، لكنه لا يقل إحكامًا. في بيئة تعاني من القلق، والفراغ، والدمار، يصبح الصوت الأعلى هو ذلك الذي يعد بالنجاة، لا بالحرية.

لماذا استمر التقديس رغم سقوط الأسد؟

قد يبدو غريبًا، للوهلة الأولى، أن تستمر بعض أنماط الولاء السلطوي حتى بعد انهيار النظام القديم أو تراجع رمزيته. لكن حين نتأمل السياق السوري بعمق، نكتشف أن التقديس لم يكن دائمًا نابعًا من الإيمان بشخص الحاكم، بقدر ما كان رد فعل على غياب بدائل مألوفة، ونتاجًا لتاريخ طويل من انعدام الممارسة السياسية الحرة.

فبعد عقود من الحكم الاستبدادي، لم يتشكل في الوعي السوري نموذج واضح للدولة القائمة على المؤسسات. لم يعرف الناس تداولًا فعليًا للسلطة، أو استقلالًا للسلطات، أو ثقافة سياسية تشجّع على النقد والمساءلة. لهذا، عندما غاب الأسد، لم يتراجع الجميع باتجاه مشروع ديمقراطي متماسك، بل وجد كثيرون أنفسهم في فراغ سياسي ونفسي مربك، فاستعادوا — عن وعي أو لا وعي — النموذج القديم، ولكن بوجوه جديدة.

كان السؤال الذي فرض نفسه في تلك اللحظة الحرجة: “من سيملأ هذا الفراغ؟”، لا “كيف نمنع تكرار الاستبداد؟”. فحيث يغيب الأمان، تظهر الحاجة إلى سلطة قادرة، حتى وإن تكررت عبرها أخطاء الماضي. وهذا ما ساهم في استمرار التقديس، ليس على شكل طاعة إجبارية دائمًا، بل أحيانًا كحالة دفاعية تبحث عن الاستقرار، ولو في صورة وهمية منه.

لكن يجب الحذر من التسرّع في الحكم على هذا التكرار وكأنه نكوص جماعي أو إخفاق شعبي. فجزء كبير منه كان نتاجًا مباشرًا لمنظومة قمعية عملت لعقود على تجفيف منابع الوعي السياسي النقدي، وتفكيك أي إمكانية لقيام مؤسسات مستقلة. وإذا بدا أن الناس قد كرروا خطأهم، فإن السؤال الأهم ليس “لماذا فعلوا؟”، بل “من وفّر لهم البديل؟”.

ما حدث، إذن، لم يكن خيانة لفكرة الثورة، بل نتيجة منطقية للفراغ الذي خلّفه النظام، حين لم يسمح لغيره أن ينمو.

ما الذي يجعل المجتمع مهيّأً لإعادة إنتاج الاستبداد؟

غالبًا ما يُعزى استمرار الاستبداد إلى سطوة القمع، لكن التجربة السورية تُظهر أن السلطة القمعية لا تصمد وحدها دون بيئة تمهّد لها، أو على الأقل تتعايش معها. هذه البيئة لا تُبنى في لحظة، بل عبر تراكم طويل، تُشارك فيه مؤسسات التعليم، والإعلام، والخطاب العام، ويُعاد ترسيخه باستمرار.

في الحالة السورية، ساهم التعليم الموجّه في تشكيل أجيال تلقت المعرفة على هيئة حقائق غير قابلة للنقاش. لم يكن التاريخ سردًا متعدد الأصوات، بل رواية رسمية تُحدِّد من هو البطل ومن هو الخائن. التفكير النقدي لم يكن مهارة مطلوبة، بل خطرًا محتملاً.

غياب التعددية الحقيقية كذلك لعب دورًا حاسمًا. لعقود، لم تشهد البلاد تداولًا فعليًا للسلطة، ولا أحزابًا مستقلة تمثل توجهات شعبية متنوعة. وهكذا، تَشكّل وعي سياسي هش، يرى في الحاكم ضرورة لضبط الفوضى، لا موظفًا خاضعًا للمحاسبة.

ثم جاء الخوف، ليس فقط من النظام، بل من المجهول. الثورة نفسها، رغم زخمها، ترافقت مع انهيار أمني وخدمي واسع، أظهر هشاشة البنية العامة للدولة. في ظل ذلك، راجت سردية أن “الاستبداد سيئ، لكن الفوضى أسوأ”، وعلّقت فئات عديدة آمالها على القائد القوي، لا على النظام العادل.

لكن هذا لا يعني أن المجتمع السوري بطبيعته قابل للاستبداد أو متصالح معه. إنما يشير إلى أن النظم القمعية حين تُطيل مكوثها، تخلق حولها بيئة نفسية وثقافية تُحاكي منطقها. والمطلوب لفهم هذه الظاهرة ليس فقط توجيه النقد، بل تفكيك البنى التي أنتجتها، وطرح نماذج بديلة تُخاطب الناس من موقع تجربتهم لا من فوقها.

متى يتحرر السوريون من عبادة الحاكم؟

بعد أكثر من خمسة عشر عامًا على اندلاع الثورة، لا تزال سوريا معلّقة بين ماضٍ استبدادي ثقيل، ومستقبل لم تتضح ملامحه بالكامل. السؤال اليوم لم يعد يتعلق فقط بمن يجلس على كرسي الحكم، بل بنمط التفكير الذي يجعل الكرسي نفسه مركز السلطة، لا القانون ولا المؤسسات.

التحرر من تقديس الحاكم لا يبدأ بسقوطه، بل بتفكيك البنية الثقافية والسياسية التي جعلت من الزعيم قدرًا، ومن تغييره مخاطرة. وهذا طريق طويل، لا يُختصر في شعار ولا يُفرض من الخارج، بل يُبنى داخليًا: عبر تربية جيل جديد يفكر بحرية، وتعليم يعيد الاعتبار للأسئلة، وإعلام يطرح البدائل لا يكتفي بتكرار الوجوه.

ربما لم يكن الاستبداد في سوريا مجرد حادث سياسي، بل نتيجة منظومة متكاملة اشتغلت على تشكيل الوعي، حتى بات الخلاص يتخذ شكل شخص، لا مؤسسة. من هنا، فإن التغيير الحقيقي لن يكتمل بإزاحة رأس السلطة فقط، بل حين تتحوّل الدولة إلى فضاء مشترك، تحكمه القوانين لا الولاءات، ويتساوى فيه الجميع أمام المسؤولية والحق.

ولعل التحدي الأكبر اليوم لا يكمن فقط في إسقاط الطاغية، بل في مقاومة الحاجة النفسية لإيجاد “طاغية بديل” يطمئن الخائفين. فكلما أُزيل زعيم وبحثنا عن آخر يشبهه، نكون قد أخطأنا الهدف.

لكي ينهض السوريون من تحت ركام الحرب والخوف، لا بد أن يتحرروا من عبودية الشكل، ويعيدوا بناء وطن يُدار بالعقل لا بالهتاف، بالمؤسسات لا بالأفراد، بالثقة لا بالذعر. عندها فقط يمكن القول إن الثورة لم تكن مجرد احتجاج، بل بداية لولادة جديدة.