في دولة يُفترض أن تكون ذات سيادة، يتفق الجميع نظريًا على ضرورة صونها، تبرز من جديد المطالبات بإقامة دولة مدنية وعلمانية، بالتزامن مع احتفاء بعض القوى بما تُعدّه انتصارًا إسلاميًا، وذلك في أعقاب ثورة سلمية تحوّلت إلى واحدة من أكثر الحروب الأهلية عنفًا وطولًا في المنطقة. وقد شهدت تلك الحرب إقصاء قوى مدعومة من إيران وروسيا على يد أطراف مدعومة من تركيا وحلف شمال الأطلسي، بينما توسّع إسرائيل بهدوء مواقعها الاستراتيجية، وتعمل على تحييد ما تبقى من قدرات، في حين تلوّح الولايات المتحدة بالانسحاب من شرق الفرات، وتستمر روسيا في التفاوض بشأن قواعدها. أما على الأرض، فترتفع وتيرة العنف المتقطع الذي يوقظ خلايا نائمة تنتمي إلى جهات متباينة.
في ظل هذا المشهد المعقّد، تعود إلى السطح قضايا ونقاشات مألوفة، طالما تم تأجيلها أو إسكاتها، بعضها يمتد إلى قرون، لكنها تتجدد اليوم بلغة جديدة، تتخللها مفردات مثل “الديمقراطية” و”العلمانية”، وتتداخل مع التساؤلات المزمنة حول مشروعية الفئة الحاكمة، وما يتفرع عنها من إشكالات تتصل بمفاهيم الأكثرية والأقليات.
مفهوم الدولة:
يصعب الادعاء بأن دولة حقيقية قد قامت فعليًا في هذا المكان، والمقصود هنا المنطقة الجغرافية الواقعة بين إيران الكبرى وتركيا الكبرى ومصر. فقد ظل هذا الحيّز التاريخي في الغالب، إما تابعًا لإمبراطوريات مجاورة أو ملحقًا بسلطات خارجية أبعد، وحتى حين كانت بعض العواصم الاسمية لتلك الإمبراطوريات تقع ضمن حدوده، فإنها كثيرًا ما مثّلت محاولات للاستفادة من إرث إدارات محلية متبقية من إمبراطوريات سابقة آيلة إلى الزوال، كما في حالة الأمويين الذين ورثوا بعض أدوات الحكم البيزنطي، أو العباسيين الذين استندوا إلى البنية الفارسية.
من السمات اللافتة لهذه المنطقة ما يمكن تسميته بـ”المجموعة الوظيفية”، وهي فئة تختارها السلطة الإمبراطورية بعناية لتكون أداة للحكم أو القوة العسكرية، غالبًا ما تُنتقى من شريحة اجتماعية محددة تضمن نوعًا من القبول المحلي الأدنى، وتُستخدم لضبط بقية المجتمع. لم تكن هذه المجموعات طوائف بالمعنى الروحي أو الديني بالضرورة، بل وحدات اجتماعية أو عشائرية أو مناطقية ذات طابع شبه مغلق.
فمثلًا، في فترات ازدهار تدمر، لعب مقاتلو عشائر البادية أدوارًا عسكرية لصالح السلطة التجارية، وفي عصر الفتوحات الإسلامية مثّل مقاتلو الجزيرة العربية القوة الضاربة في تأسيس الدولة الأموية، ثم حلّ محلهم مقاتلو خراسان وإيران في الدولة العباسية. وبمرور الزمن، تكرّرت هذه الصيغة بوجوه متعددة، خاصة في عصور الصراع الصليبي، وحتى ضمن الإمبراطوريات التي تبنّت تقنيات تجنيد المقاتلين المفصولين عن المجتمع، لضمان ولائهم وقابليتهم للاستعمال.
وقد شكّلت الإمبراطورية العثمانية نموذجًا واضحًا لهذه السياسة، إذ طورت منظومة عسكرية خاصة بها (الانكشارية)، وهي فئة مُجنّدة وفق نظام قسري من أبناء أقليات أو مجموعات “غريبة” عن النسيج المحلي، خضعت لتأهيل عسكري وثقافي صارم. ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الفئة لم تكن تعبّر عن خلفية دينية أو قومية واحدة بقدر ما كانت كيانًا وظيفيًا صرفًا، وإن حُمّلت لاحقًا بصفات طائفية أو عرقية.
مع أفول العثمانيين، بدأت هذه المقاربة تفقد تماسكها، وتحولت إلى ممارسات محلية تقوم بها سلطات ضعيفة تحاول تقليد نموذج الطائفة العسكرية أو الأخوية القتالية، باستمرار الاعتماد على “الغريب”، سواء من خارج المكان أو من جماعات هامشية داخله.
إلا أن النقلة النوعية في هذا الاستخدام وقعت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، حيث اتجهت السلطة العثمانية إلى استثمار الفئات المحلية ذات الخصوصية الاجتماعية أو الإثنية، ليس فقط بوصفها أدوات للضبط، بل كعنصر من عناصر التماسك الإمبراطوري الداخلي في مواجهة التفكك. من أبرز هذه التجارب ما تم مع مجموعات من سكان المناطق الشرقية للأناضول، والتي ستُعرف لاحقًا تحت المسمّى الإثني “الكردي”. هذه الفئة العشائرية المتمايزة لم تكن تركية ولا عربية ولا فارسية، وقد أسند إليها دور عسكري مهم في وحدات الفرسان الحميدية، التي وُجهت في فترات متعددة لمواجهة فئات أخرى كالأرمن.
وقبل ذلك، كانت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية، في إطار نفوذهما المتزايد على الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، قد استعملتا أنماطًا مماثلة من المجموعات الوظيفية. على سبيل المثال، استعانت بريطانيا بالطائفة الدرزية كقوة فاعلة في ضبط مناطق معينة في شرق المتوسط، في حين لجأت فرنسا إلى دعم الموارنة في المقابل، ما أدى إلى توترات بلغت ذروتها في أحداث دمشق عام 1860، والتي تُفهم على نحو أدق ضمن سياق صراع مجموعات وظيفية مرتبطة بقوى خارجية أكثر منها طوائف محلية متصارعة على أساس ديني صرف.
لاحقًا، ومع تقاسم القوى الأوروبية للأقاليم التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية المنهارة، اتجهت فرنسا إلى تكرار النمط ذاته في إدارة مستعمراتها الجديدة في المشرق. وقد تم توظيف مجموعات محلية معينة كوحدات وظيفية جديدة تتولى مهام الضبط والسيطرة، وذلك بما يخدم البنية الاستعمارية الناشئة.
في هذا السياق، جرى التركيز على الفئة التي ستُعرف لاحقًا باسم “العلويين”، وتحديدًا أولئك المقيمين في جبال الساحل السوري. وقد شُكّلت من هذه الفئة نواة للجيش المحلي المرتقب، وهو قرار لا يمكن فصله عن السياقات الدولية والإدارية التي فرضها الانتداب الفرنسي. وإلى جانب هذه النواة، جرى الاعتماد بشكل ثانوي على عشائر الفرات، الذين أظهروا تاريخيًا نزوعًا للاستقلال الذاتي ورفض الخضوع للسلطات المركزية. وقد أُنشئت من بعض هذه العشائر قوات محلية، قلّما تُذكر في الأدبيات العامة، لكنها أدت أدوارًا أمنية في مناطق مثل لواء الزور والبادية السورية.
كانت هذه المجموعات الوظيفية، في جوهرها، بمثابة خزان بشري لتأمين قوى ضاربة على الأرض، دون أن تُشكّل تمثيلًا حقيقيًا لعمقها الاجتماعي أو الثقافي. إذ غالبًا ما جرى فصل هذه الوحدات المقاتلة عن بيئتها، لتتحوّل إلى أدوات للضبط لا تفرّق بين الخصوم، بما في ذلك جمهورها المفترض. ومع الوقت، بدأ الالتباس يتصاعد بين مفهوم “المجموعة الوظيفية” والمفاهيم الطائفية أو الهوياتية، وهو التباس غذّته سياسات التمييز والفرز الإداري المستمرة.
عمومًا، جاءت هذه الجماعات من مناطق مهمّشة اقتصاديًا، أو ذات طابع جغرافي قاسٍ لا يوفر مقومات كافية لحياة مستقرة، أو أن تاريخها المديد طبعها بنزعة إلى القتال أكثر من الإنتاج الزراعي أو الصناعي. ومن هذا الواقع، تشكّلت قاعدة عسكرية جاهزة نسبياً للاستعمال، تختلف فعاليتها بحسب اللحظة السياسية وموقعها في الخارطة الإقليمية.
في المقابل، فإن ما يُشار إليه اليوم بوصفه “الأكثرية” كان يتكوّن من الفئات السكانية العاملة في القرى والمدن، والتي انخرطت باستمرار في أنشطة إنتاجية وفّرت لها حداً من الاستقرار. كثير من هؤلاء ينحدرون من خلفيات اجتماعية متداخلة، ما يضعنا أمام نسيج اجتماعي معقّد، تحكمه الحاجة إلى التمييز وإعادة رسم الحدود الرمزية، في مشهد يبدو في جوهره مركبًا ومختلطًا، رغم محاولات الفرز المستمر.
وباختصار، فإن النتيجة المتكررة في هذا السياق هي غياب الدولة ككيان سيادي حقيقي، وحلول سلطات محلية مكانها، غالبًا ما كانت أدوات بيد قوى إقليمية أو دولية، تتبدل بحسب تغير موازين القوى وأداء الفاعلين المحليين.
وفي العقود الأخيرة، بدأت هذه الآلية تشهد تعديلات وتفرعات جديدة نتيجة تصاعد تعقيدات المشهد السياسي، وصولًا إلى اللحظة الراهنة التي جرى توصيفها في مقدمة النص.
التطبيق الأول لهذه الآلية:
مع تصاعد التحولات الميدانية والسياسية، أمكن ملاحظة نمط متكرر في إدارة النفوذ عبر تفكيك المجموعات الوظيفية المرتبطة بالسلطات السابقة، سواء بطرد القوى الخارجية التي كانت تستند إليها، أو بعزل القوى المحلية ضمن نطاقات جغرافية محددة. من أمثلة ذلك إخراج المقاتلين الأجانب، وعزل القوى العسكرية ذات الطابع الطائفي في مناطقها التقليدية — كالمجموعات المرتبطة بالطائفة العلوية وبعض المكوّنات المسيحية — مع الحد من إمكانيات إعادة توظيف بعض التشكيلات الكردية التي بُنيت على أسس حديثة، مثل “قسد”، والتي وإن كانت توصف بأنها تمثل المكون الكردي، فإن تكوينها وتنظيمها يجعلها أقرب إلى مجموعة وظيفية قائمة بحد ذاتها، منفصلة جزئياً حتى عن الطيف الكردي الأوسع.
بالتوازي، ظهرت محاولة جديدة لتشكيل مجموعة وظيفية بديلة، تتميز عن بقية السكان، سواء من حيث العزلة الجغرافية أو التكوين الأيديولوجي. وقد تجسدت هذه التجربة في ما بات يعرف بـ”إقليم إدلب”، الذي تحوّل إلى فضاء خاص لتشكيل دورة حياة جديدة لشريحة من الشباب، خضعت لتدريب عسكري وإداري وعقائدي مكثف، في ظل حاضنة أمنية مشددة. هذه الشريحة اعتُمدت اليوم كأداة للقوى الناشئة في المنطقة، رغم الفارق الكبير بينها وبين مكونات المجتمع المحلي التقليدية، سواء من حيث الرؤية أو الانتماء أو وسائل العمل.
التطبيق الثاني:
أما التطبيق الثاني، فيتعلق بشكل مباشر بتبرير استمرار السلطة في غياب الدولة. وهو تناقض جرى تجاوزه تاريخياً عبر الإشارة إلى “العدو”، سواء أكان فعليًا أم متخيّلًا، بوصفه عاملاً جامعًا يبرر استمرار الحكم القائم. في التجارب السابقة، لعبت إسرائيل هذا الدور، لكن هذه الصيغة لم تعد فاعلة بنفس الدرجة، لا دوليًا ولا محليًا، ما فرض الحاجة لخلق نموذج جديد.
السلطة الناشئة اليوم — والتي ما زال يُعرَف منها بالأخص أداتها العسكرية المتمثلة بفصائل جهادية ذات توجهات متشددة — اختيرت بعناية، ليس فقط لتميّزها عن المحيط العام، بل كذلك لتهيئة البيئة الذهنية لظهور عدو جديد، تكون مواجهته مبررًا لاستمرار السلطة وبقائها.
وبالرغم من محاولات هذه الفصائل تقديم نفسها بصورة مطمئنة، وتبنّي خطاب عام أكثر مرونة، فإن حضورها أثار مخاوف صامتة لدى شرائح اجتماعية واسعة، بما في ذلك فئات غير بعيدة عنها فكريًا. وقد بدأت تظهر مؤشرات انكماش اجتماعي داخل مجتمعات محلية كانت حتى الأمس القريب متداخلة نسبيًا مع هذه التوجهات.
وهنا، برز ما يشبه الفخ السياسي:
فبمجرد ترسيخ سلطة هذه القوى، بدأت المطالبة بدولة مدنية وعلمانية تتردد بقوة، مقرونة بأولوية ما يُسمى “حقوق الأقليات”، وهي مطالب مشروعة في حد ذاتها، لكنها جاءت ضمن سياق محمّل بالتوتر والهواجس. وفي المقابل، تبنّت السلطة الجديدة هذه المفردات لتؤكد التزامها — المعلن على الأقل — بحماية حقوق الأقليات، ما ساهم في تثبيت الثنائية: “الأقليات” في مقابل “الأكثرية”، التي رُوّج لها باعتبارها قاعدة الدعم الشعبي للسلطة.
ومن خلال الربط بين “قسد” كعدو داخلي، والمكوّن الكردي بشكل عام، سواء بقصد أو نتيجة التداخل السياسي والإعلامي، إلى جانب حالة القلق التي اجتاحت كل من ينتمي إلى فئات تعتبر نفسها “أقلوية”، تبلور خطاب يبرر المواجهة القادمة تحت عنوان حماية الوحدة الوطنية ومكافحة النزعات الانفصالية، دون أن يكون هناك توافق حقيقي على مفاهيم الدولة والمواطنة والتمثيل.
المشهد الذي يرتسم اليوم…
المشهد الحالي، رغم ما يكتنفه من غموض، يحمل ملامح تراكمية لمعادلات لم تكتمل سابقًا، وقد يُفضي إلى استئناف مسارات كانت تُوشك أن تتحوّل إلى حرب أهلية مفتوحة، لكنها لم تنضج تمامًا من حيث وضوح الأطراف وتثبيت التحالفات. المشهد لا ينبئ بعودة الدولة، بل باستمرار نمط السلطة عبر أدوات متجددة، وظيفتها ضبط التوترات وتوجيهها، أكثر من معالجتها أو تجاوزها.
في جوهر القضية، تبرز مفارقة أساسية:
مطالب سياسية عامة — مثل “الدولة المدنية” أو “العلمانية” أو “حقوق الأقليات” — تُرفع في وجه كيان لا يحمل مقومات الدولة أصلًا، بل هو سلطة مؤقتة، تشكّلت في ظروف استثنائية، وتستند إلى شرعية مؤجلة، إن لم تكن معدومة.
هذه المطالب، رغم مشروعية مضامينها من حيث المبدأ، غالبًا ما تُستدعى بطريقة متسرعة، دون تحديد واضح لآليات التنفيذ أو شروط التمثيل. وفي هذا الفراغ، تتحول إلى أدوات لإعادة إنتاج الاستقطاب لا تجاوزه، ويُعاد تقديم السلطة — مرة أخرى — بوصفها الحصن الأخير في وجه الفوضى، أو “العدو الداخلي”.
ما يجري، في صورة أكثر تركيزًا، هو استمرار نفس الديناميكيات القديمة:
استثمار الهشاشة السياسية والاجتماعية في تكريس سلطة جديدة، تحمل خصائص السلطة السابقة، وإن اختلفت أدواتها ومستفيدوها. عدو جديد، وشريحة وظيفية جديدة، ومطالب فضفاضة تُستدعى في اللحظة المناسبة، لتكون الغطاء الرمزي اللازم لاستمرار السيطرة، دون المرور عبر مفهوم الدولة الحديثة بما تعنيه من عقد اجتماعي، ومؤسسات، وتمثيل حقيقي.