عن القوة البشرية، والخوف، وسوريا

لماذا اخترنا أن نعيش معاً مادام كل شخص هو أذىً للآخر؟
سأنطلق بسؤال، وستتضمن هذه التدوينة عدة أسئلة. لكنها ليست أسئلة امتحان ننتظر إجاباتها، بل دعوة للتفكير المشترك في الأسئلة التي تجمعنا كبشر، وفي القصة السورية التي لا يمكن اختصارها بجواب واحد، لأن عملية التساؤل في جوهرها عملية مستمرة وغير ثابتة.
السؤال الذي دفعني للكتابة يراودني كل مرة يُقتل فيها إنسان، أو يتصرف البشر كما لو أن غايتهم الوحيدة هي فرض السيطرة.
لماذا اخترنا أن نعيش معًا إذا كان كلٌّ منا يشكل خطراً على الآخر؟ لماذا لم نتفرق منذ البداية ونعيش كلٌ بمفرده؟ لماذا اجتمعنا إذا كان ما نفعله هو الاقتتال ومحاولة القضاء على بعضنا؟
تجاوزنا اليوم عصر الغابات حيث كانت الأسود والدببة تهدد حياتنا عند الشرب، لكننا اليوم نواجه مخاطر من نوع آخر، أقل وضوحًا، وربما أكثر تعقيدًا. ومع ذلك، نمتلك في المقابل متعة أكبر في أن نكون مع بعضنا البعض، نبني علاقات ونؤسس جماعات.
فالبشر، مثل باقي الكائنات، لم يجتمعوا من أجل الاقتتال، بل لحماية بعضهم البعض. ومن خلال هذه الحياة المشتركة نشأت الروابط الاجتماعية، واكتشفت المواهب، وارتفع متوسط العمر، واتسعت دائرة الأمان لتشمل حتى الحيوانات.
لذلك يلحّ عليّ السؤال عن قوة الجنس البشري، قوتنا فعلياً كجنس؟ ما الذي يميزنا ويجعلنا ننجو ونتطور؟ وما الخاص فينا؟ لأننا من منظور الطبيعة لسنا مميزين كثيراً: لا نملك مخالب أو أنياب، ولا نطير أو نعدو بسرعة، بل وحتى جسدنا هش مقارنة بالحيوانات أو الحشرات كنملة يمكنها أن تحمل عشرة أضعاف وزنها.

نحن أيضاً لا ننتج غذاءنا ذاتياً بل كنا نطارده. بتتبع الفرائس وصيدها وبالتقاط الثمار وجمعها، عملية الصيد نفسها كانت مقامرة يومية، مواجهة خطيرة مع وحوش أقوى منا، كان كلّ يوم هو حرب صغيرة جديدة، ومع ذلك صمدنا. بل وزادت تعقيداتنا ومتطلباتنا وبدأنا نخلق الرفاهية، لم نعد نأكل نيئًا، بل بدأنا نطهو الطعام، ما تطلب وقتاً أطول وجهداً أكبر. أضف إلى ذلك أننا لا نتكاثر بسرعة، ولا نتأقلم جينياً كالكائنات الدقيقة، وهذا عدا على أن حياتنا تقتصر على التواجد فوق اليابسة، محيدين بذلك 70% من كوكب الأرض عن إمكانية العيش فيه.
فما هي قوتنا إذاً؟
في السابق، لم يكن البشر “Homo” جنساً واحداً. كان هناك أنواع متعددة من البشر، من ضمنهم النياندرتال” Homo Neanderthal”، والهومو سيبيانز” Homo Sapiens” الذين ننتمي إليهم، ولكي يبقى نوع واحد فقط، قضى السيبيانز على أقربائهم النياندرتال””. كيف حدث هذا؟ كيف استطاع جنس أن يقضي على جنس آخر كان مماثلًا له في البنية والقدرات؟

الذكاء، ربما فالذكاء البشري علامة فارقة بحياة الجنس بأكمله، فطهو الطعام الذي لم يوفّر لنا الوقت كان يوفّر لنا مساحة للتفكير بتقليل حجم الفك، الأمر الذي سمح لأدمغتنا أن تنمو وتتطور وتصبح أكثر قدرة على التفكير واكتساب المهارات، ببساط طهو الطعام ساعدنا لنكون أذكياء.
هذا الذكاء سمح لنا باختراع الأدوات، ونصب الفخاخ، والتخطيط. ولكن هل كان يكفي أن نملك الأدوات؟، فما زالت الأسود والدببة في الخارج وتستطيع قتل الفرد بضربة واحد حتى لو كانت جريحة، فالذكاء لم يكن وحده كافياً. ما الفائدة من رمح يخترعه شخص واحد ولا يشاركه مع المجموعة؟ أو من صائد غزال لا يراقبه أحد من الخلف؟ الذكاء يحتاج الجماعة، لا قيمة للاختراع إذا لم يشارك، ولا معنى للحيلة إن لم تُحمَ وتُدعَم، وهذا التواصل والتجمع والتفاهم هو ما يميز الذكاء البشري، هو أول خطوة في تطور البشرية عبر التجمع وتشكيل مجتمعات صغيرة.
كنا بحاجة لبعضنا البعض: لحماية الأطفال، والاعتناء بالمرضى، للتكافل في مواجهة الخطر. لم يكن أحد ينجو وحده. لذلك، لسنا أقوياء، ولسنا خارقين، نحن فقط أذكياء معاً.
وبفضل هاتين القوتين “الذكاء والجماعة”، استطعنا أن نتطور ونوفر فرص نجاة لفئات لم يكن لها مكان في عالم البقاء للأقوى “المرضى، العجائز، وحتى الضعفاء” جعلنا الحياة أكثر راحة وتعقيداً في آن معاً. ومع كل هذا، بدأ وعينا يتطور، بدأنا ندرك ذواتنا و اختلافاتنا، وأصبح كل فرد يحمل كيانه المستقل ويدرك اختلافه، وقد يكون هذا الوعي أسرع من قدرة عقولنا البدائية على استيعابه.
وخلال مسيرتنا هذه رحنا نتطور فكرياً، وندرك وجود ذواتنا وأن كل فرد هو كيان مختلف عن الآخر، وربما كان هذا التطور-تطور الوعي والإدراك أسرع مما يمكن للعقل البدائي وللاوعي استعايبه، ومازلنا حتى اليوم نتعامل مع الشقين معاً في الحيتة اليومية سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك.
كان المحرك الأساسي لاستثمار قوانا بجانب غريزة البقاء هو الخوف، فلو لم نكن نخاف من الحوش في الخارج كيف كنا سنطور الأدوات والاستراتيجيات لحماية أنفسنا؟، لو لم نكن نخاف من الوحدة كيف كنا سنقوي علاقتنا الاجتماعية ونرعى المرضى والضعفاء؟.

ولو لم يخف الجنس البشري من النياندرتال لما قضى عليهم. لقد رأيناهم كمنافسين، ليس لأنهم أعداء، بل لأنهم كانوا مشابهين جدا لنا، يمتلكون ما نملك تقريباً، وربما كان ذلك هو مصدر القلق الحقيقي، أن يكون هناك من يشاركنا ذات القوة، فهم تهديد حقيقي ولأننا فهمنا القوة بوصفها سيطرة، رأينا فيهم تهديداً، واخترنا القضاء عليهم. ولكن، هل كان النياندرتال خطراً حقيقياً؟ هل لم يكن هناك خيار ثالث؟ هل حقاً لا بد أن نختار بين الهيمنة أو الفناء؟ هل خذه هي حدود تفكير البشر عند الخوف؟
رغم أن التاريخ يخبرنا أن السابينيز والنياندرتال تزاوجا، وأنجبا نسلاً غير عقيم، أي أن هناك فرصة كانت لبناء علاقة، لكن لم يتمسك بها أحد. لو اجتمعت قوة السيبيانز مع قوة النياندرتال، ماذا كان سيحدث؟ كم من القوة خسرنا فقط لأننا خفنا منها؟
ما الذي جعلنا نحصر الخيارات بين السيطرة أو الموت، أليست هذه فكرة منبعها الخوف؟، فلو نظرنا للإنسان وسط غيره من الكائنات ووسط الطبيعة بتقلباتها غير المفهومة نراه يقف عاجزاً أمام هذه المصاعب غير قادر على فعل شيء، ولكن هذا الخوف الفائض كان لدى الإنسان البدائي الذي لم يجد إلا بفرض السيطرة وبفناء الآخر وسيلة لتحد الخوف، فماذا عن الإنسان المعاصر اليوم؟
الخوف، رغم أنه بديهي وطبيعي، كان وما يزال مفتاحًا لفهم تصرفاتنا، وحتى اليوم، لا يزال هناك ثلاث ردود فعل محفوظة في أدمغتنا من مواجهة الخطر: الهرب، الجمود، أو المواجهة.
ربما ما نفعله اليوم، سياسياً واجتماعياً، ليس إلا إعادة تكرار لهذه الخيارات الثلاثة، ولكن بشروط وظروف مختلفة فاليوم لا نواجه دب أو وحش بل نواجه رصاصة تهدد أماننا، تخيل لو أننا لا نخاف من الرصاص؟

بإمكاننا إسقاط هذه التساؤلات على الحالة السورية، فهنالك من اختار الهرب وتخفى وراء الصمت، اختفى من الحياة العامة أو من البلاد، وهنالك من جمدّ في مكانه يصفق ويهتف اتقاءً للخطر خوفاً من أن ينقض عليه الدب/ الأسد، كما فعل مع الفئة الثالثة التي اختارت مصارعته وتحديه ومواجهته،جميعهم، في الحقيقة، دفعتهم مخاوفهم لاتخاذ خياراتهم.
تاريخياً، لم تكن سورية دولة حرة أو مستقلة تماماً. كانت جزءاً من إمبراطوريات وممالك أكبر، ولطالما كان الحكم يهمش بعض الفئات والمكونات الاجتماعية ويميز بعضها عن الأخرى فالسوريون لطالما وجدوا أنفسهم أمام قوى أكبر منهم يخافون منها، ثم انتُدبت من الاحتلال الفرنسي، ثم دخلت في سلسلة من الانقلابات، ثم قامت الوحدة مع مصر التي همشت الإقليم الشمالي واستنزفته، حتى وصلت إلى النظام الأسدي، حيث طُمست قوة الجماعة وتحوّلت قوة العقل إلى سلاح فردي أناني.
بمعنى أن سوريا لم تستخدم قوة الجماعة منذ 2000 عام، وبقيت قوة الذكاء تستخدم للنجاة الفردية، وعلى الرغم من ترديد الشعار “الشعب السوري واحد” فهو ليس إلا أمنية، لأن الواقع لا يقول ذلك. وربما لا يجب أن نكون “واحداً” أصلاً، بل فقط جماعة تعيش معاً رغم اختلافاتها.

لكن هذه الأمنيات ليست بالأمر السهل، ولا يمكن أن تُبنى الجماعة دون مواجهة أسئلة مؤجلة منذ قرون: ما هي الهوية السورية؟.
وكيف نرسمها؟ بل، ما هي سوريا التي ننادي بها أساساً؟
العقل وحده لا يكفي للإجابة، فكل سوري قد يملك تعريفاً مختلفاً، لكن الجماعة، إن وُجدت، يمكنها أن تحمي هذه التعددية وتحتضنها، وتخلق من 21 مليون تعريفاً جامع لكل أصواتنا، حامل لكل رؤية من رؤانا، يحترم كل آرائنا وتعددنا و اختلافاتنا، تعريف يجعل هويتنا الفردية تزدهر وتنخرط في روح الجماعة.
القوة الجماعية اليوم لا يجب أن تكون كما فهمها أجدادنا: تطابق، سيطرة، وإقصاء. بل يمكن أن تكون شراكة وتنوع يحترم الجميع، قوة الجماعة اليوم ماعادت كما فهمها السابيانز، ليس كلّ من لا يشبهنا هو خطر علينا وتهديد، بل الجماعة تزدهر بتنوعها.
وما علاقة كل هذا بالصراع في سوريا؟ ببساطة، لأن السوريين بشر، ولأن العنف سلوك بشري، والهوية البشرية هي أقدم وأعمق هوياتنا. لا يمكننا فهم ما يحدث دون أن نُعيد النظر في طبيعتنا نحن أولاً، وأن نفهم العنف في تكويننا بعيداً عن الصور النمطية.
جميعنا نتنفس الهواء ونتناول الطعام، ونحتاج الأمان والراحة، كذلك جميعنا نشترك بتاريخ مدفون داخلنا يعمل بطرقه الخفية، فالهوية البشرية هي أقدم هوية نمتلكها جميعنا وكل ما ننتجه ننتجه لأننا بشر مهما اختلفت البيئة “سورية، هندية..إلخ”

هذا لا يعني إنكار الهوية السورية، بل العكس: هو بحث حقيقي عنها، وتحرير لها من الخرافات والأحكام الموروثة. وربما، فقط ربما، نمتلك اليوم الفرصة التي لم يمتلكها الهومو سيبيانز: أن نختار ألا نكون قتلة، بل أن نكون جماعة تسمع وتحمي وتبني.