Author: سعد الحلبي

  • جامع الجكارة

    جامع الجكارة

    تكبير!!!
    الله وأكبر!!!
    لم تعد تلك الكلمات (فقط) لدعوة المسلمين إلى تجديد الوصال مع الله في المساجد، بل أصبحت نقطة لإسكات الكلمات وردع القول، أو سلاحًا يستخدمه اتباع المنتصر في سوريا والذي تقمص دور الثائر المتدين، المهيمن، العزيز، الجبار.
    من قصر الشعب السوري، حيث فرد عماماته وتقلّد مقاليد السلطة، تحولت هذه الكلمات إلى الحل الأوحد والإجابة الأفضل على كل الأسئلة الوجودية والمصيرية المطروحة — البلسم الذي يداوي الجراح والسم الذي يقتل المعتدين. أينما ولّيت وجهك، وكيفما هربت، ستلاحقك مقاطع الفيديو، حيث التكبيرات تترى بعد كل كلمة، وكل سؤال محق، ساذج، مقنع…… لا يهم شكل ومعنى السؤال، كل الإسئلة تُختصر أجوبتها بالتكبير. على صفحات الفيسبوك، الإنستغرام، التيك توك؛ لا أعرف إلى أين أهرب من تلك المقاطع وتلك الكائنات الرقمية، حيث أصبح التكبير يُفزع ويفرق ولا يجمع.
    لم يكن المشهد في قصر الشعب مجرد تعديل او تحول سياسي وعسكري، بل تحولًا جوهريًا في ملامح المستقبل السوري؛ فبتحول قصر الشعب إلى مركز لفكر ديني مُؤدلج، لم يعد الشارع السوري بمنأى عن هذا التحول، بل بدأ تبني هذا المنهج تدريجيًا كعنوان للنجاة والضمان الانتماء. ومع مرور الوقت قد تتسرب هذه العقيدة من القمة إلى القاعدة، مُعيدة تشكيل وعي جمعي للجماهير، لا كخيار، بل كضرورة وجودية في ظل سلطة تعتمد الثوب الديني المُرشح بدماء مصدرًا للقوة والسيطرة.

    تطرق باب فضولي الكثير من الأفكار والأسئلة، تلحّ عليّ بالنقاش، تبحث عن منفذ للحوار مع أبناء بلدي، لعلنا نجد طريقًا يقودنا إلى حيث وصل العالم من حولنا. لكن مع من؟
    إذا كان الكثير ممن يعتقدون أنهم “أقضّوا مضاجع السلطة وأحكموا عليها بمخالبهم” لا يرغبون بنفض الغبار عن أدمغتهم ولا الخوض في أي حديث جاد. بل يختصرون كل الإجابات بشيفرات مستفزة:
    (الله وأكبر، وين كنت من 14 سنة، اللي بحرر بقرر، أمويّة، تكبير).
    تلك الشيفرات ليست مجرد كلمات أو شعارات عابرة، بل أدوات خطاب موجه، اعتقد أنها تُبث بوعي كامل، لتمرير رسائل خفية(أو علنية) تحاول التأكيد على واقع السيطرة والتفوق. عبارة مثل “الله وأكبر” لا اعتقد انها تقال هنا باعتبارها تعبيرًا دينيًا، بل تصريح استعلائي يراد منه الإشارة إلى أن من يملك الصوت، يملك الحقيقة، والحق. قولنا كقول الله، نحن الأكبر، لايرد على قولنا سوى بالطاعة والقبول.

    لماذا هذا الإصرار على الاستفزاز؟
    لماذا يتخذون من التحدي الساذج منهجًا، حيث لا حوار ولا منطق بل شعارات جوفاء تعانق الأثير كصدى أجوف؟
    لماذا تُطرز شبكات الاستفزاز من خيوط الدين المنقوع في سم العُرف والثقافات الشعبية؟
    قادتني تلك الأسئلة إلى نبش ذاكرتي، حيث ترقد صورٌ متفرقة، إذا ما تجمعت رسمت خرائطَ ونصبت مشانق من حبال حدود خفية. صراع البقاء بين ثقافاتٍ متنافرة، تقسم إلا أن تُظهر أسوأ ما لديها، لتكلل ذلك البقاء بمياه ضحلة لا تُبحر فيها سفينة النجاة ولا تروي عطش الثائر المنتظر، المعتصم في ساحات الجامعات ودور الثقافة.

    تُشكّل السياسة والدين الركيزتين الأساسيتين في بناء ثقافات المجتمع السوري، أو ربما الغطاء الذي يخفي تحته تنوّع هذه الثقافات وتحولاتها العميقة عبر الحقب التاريخية التي مرّت بها سوريا. غير أن هذا التنوع، بدلاً من أن يكون مصدر غنى، كان في كثير من الأحيان ساحة للصراعات، حيث لم تكن المواجهات بين الأديان والطوائف انعكاسًا لاختلافات عقائدية فحسب، بل كانت أدوات تُحركها المصالح السلطوية، وتُغذّيها حسابات القوى المتصارعة.
    فالتاريخ السوري مليء بمحطات وظِّف فيها الدين لخدمة السياسة، حيث استخدمته السلطات ورقة رابحة لاستمالة القلوب، وبنفس الوقت لرسم حدود الخوف والارتياب بين أبناء البلد الواحد. كان على السوري، إن أراد الحفاظ على بيته وأرضه اللذين نشأ عليهما، أن يكون حذرًا، أن يلتزم الصمت، وأن يمارس انتماءه في الخفاء، وكأن وجوده مرهون بمدى قدرته على تفادي “الآخر” الذي قد يُنظر إليه كخصم بحكم اختلافه في العرق أو الدين. وهكذا، تحوّلت الهوية في سوريا إلى حقل ألغام، لا أحد يعرف متى يحترق فتيله وينفجر.

    أما أنا، فلم أكن يومًا حرًا، بمفهوم حرية الشباب. لم أكن أرتاد أماكن السهر، ولم أكن أتسكع في الشوارع الخالية بحثًا عن لحظات لهو عابرة. لكن، في نهاية الفصل الدراسي بجامعة حلب، شعرت برغبة غامضة في العودة إلى المنزل مشيًا، وكأنني كنت أدرك – دون وعي – أنني في يوم ما سأشتاق إلى هذه الشوارع، وسأحلم بالسير فيها كأنني غريب.
    في ذلك اليوم، كانت المدينة تنفض عنها ضجيج النهار، والأضواء الشاحبة المنبعثة من المحال القديمة تلقي بظلالها على الأرصفة. كنت أراقب وجوه العابرين، بعضهم سارعين، وبعضهم تائهين في أفكارهم. كنت أتلمّس حجارة الطرقات وكأنني أحفر هذه اللحظات في ذاكرتي، لأحملها معي حيثما قادتني الأيام. لم يكن المشي مجرد خطوة جسدية، بل كان استعادة صامتة لعلاقة منسية مع مدينتي، التي كنت أخشى أن تسرقها الأيام مني، كما سرقت من غيري أشياء أعزّ من المدن.
    في ذلك اليوم، وبعد انتهاء آخر محاضرة لي في الجامعة، قررت العودة إلى المنزل مشيًا على الأقدام. لكن عند مفترق الطرق في ساحة سعدالله الجابري، تهت في طريقي، حتى وجدت نفسي في حي يُميّزه معلم بارز: جامع التوحيد ذو الأربع مآذن، وخلفه حديقة صغيرة. على طرف تلك الحديقة، انتشرت أكشاك تبيع بضائع متنوعة.
    شعرت بالعطش، فتوجهت إلى أحد الأكشاك حيث وقعت عيني على قنينة ماء داخل البراد. أخذتها ثم تقدّمت نحو البائع لدفع ثمنها. كان رجلًا مسنًا، أبيض اللحية، يرتدي الزي الإسلامي وعلى رأسه قبعة مفرغة تُعرف في سوريا بـ”العرقية”. عرفت أن اسمه أبو معروف عندما ناداه أحد الأشخاص من الكشك المجاور.
    بعد أن دفعت ثمن القنينة، هممت بالمغادرة، لكن سؤالًا راودني فجأة، فأعدت النظر إلى أبو معروف وسألته دون مقدمات:
    سعد: هذا جامع التوحيد، صحيح؟
    أبو معروف: نعم، وإذا بدك، فهو أيضًا جامع “الجكارة”.
    استغربت الاسم وسألته عن معناه، فضحك وقال:
    أي، لا تستغرب! هذا الاسم ليس رسميًا، لكنه شائع بين الناس. بدأ الحديث عنه في الثمانينات، عندما طرحت فكرة بناء المسجد. لا أعرف بالضبط من كان وراء بنائه، لكن قيل إن الفكرة قوبلت باعتراضات، لأن المنطقة ذات أغلبية مسيحية وتضم أربع كنائس قديمة ومهمة.
    سعد: من الذي اعترض تحديدًا؟
    أبو معروف: أهل المنطقة، والذين يعملون في الكنائس هنا. وقتها، قيل إن أحد أعضاء مجلس الشعب وبعض الشخصيات النافذة رفعوا الأمر إلى الرئيس حافظ الأسد، وهو الذي أمر ببناء الجامع بهذا الشكل: أربع مآذن، بعدد الكنائس، وكل مئذنة عليها أكثر من عشرة مكبرات صوت.
    سعد: لكن لماذا الإصرار عليه؟ هل كانت المدينة بحاجة لمسجد آخر؟ ولماذا لكل كنيسة مئذنة؟

    ابتسم أبو معروف وقال:
    قلت لك، “جكارة”!
    سعد: أوف!
    وبكل هذه العلنية؟
    أبو معروف: هناك تفسيرات أخرى، لكن هذا ما أعرفه.
    ضحكت وقلت:
    أحلى ما في هذا البلد أن لكل شيء قصة، لا شيء يحدث صدفة.
    ضحك أبو معروف أيضًا، صافحني مودّعًا، ثم غادرت وأنا أفكر في المسجد بين مشكك ومصدق لكلامه، متأملًا تلك المآذن ومكبرات الصوت المرتكزة عليه، واحاول رسم تلك المسافات بين مآذن الجامع وقبب الكنائس المحيطة به. راودني سؤال حول التدخل السياسي في الدين، وكيف تستخدم السلطة بعض الرموز الدينية لفرض توجهات معينة. إذا كان هذا رأي رجل مسلم مثل أبو معروف، فكيف كان مسيحي من سكان الحي سيروي القصة؟
    لم يكن من السهل مغادرة المكان، لكن سيارة أجرة توقفت أمامي، مما شجعني على المغادرة. وبينما كنت أستعد لركوب السيارة، لفت انتباهي مشهد غريب: فتاة تخرج من الحديقة خلف الجامع، وجهها مغطى بمساحيق التجميل بشكل مبالغ فيه، وملابسها ضيقة تكشف تفاصيل جسدها، فيما تستند إلى رجل يحمل بيرة وسيجارة. أثناء مرور السيارة أمام الحديقة، لمحت مشهدًا أوسع من الداخل، بدا وكأنه أشبه بحانة مفتوحة للمراهقين وعشاق الغرام المأجور.

    ظل المشهد يلاحقني حتى بعد مغادرتي، وكأن الحي بكل تناقضاته حمل معه قصة أخرى، كنت مفرداتها ترن في مسمعي وتطوف في فكري، لكن هذه المرة كانت عن لسان رجل مسيحي تضرب جذوره في أعماق هذا البلد ك شجرة مصفرة بعض اوراقها ومحترقة بعضها من غيظٍ تعكرت مائه منذ زمنٍ بعيدٍ ولم تُرشح بعد.

    اليوم، في ظل السلطة الجديدة، المؤدلجة لصالح دينٍ وفكرٍ واحد، أجدني أتساءل:
    أين هو أبو معروف الآن؟ وما هو شعوره؟
    ماذا عن حراس الكنائس الأربعة وراعيها، وعن أهل تلك المنطقة الذين ضجّوا يومًا بفكرة تشييد جامع الجكارة؟
    كيف يرون المشهد اليوم وقد اتسعت الشروخ في كل مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية، حتى بات اللون الواحد والمذهب الواحد يحكم قبضته على هذه الفجوات، محصّنًا بروح السلطة الجديدة؟
    هل ستصبح كل جوامع سوريا نسخًا من جامع الجكارة، حيث يُعاد تشكيل الدين ليكون أداة نفوذ أكثر وضوحًا من أي وقت مضى؟
    هل ستتحول مقاعد البرلمان إلى منابر تشبهه، حيث تُفرض رؤية واحدة، تمامًا كما تحوّلت أماكن العبادة إلى ساحات لصراع المصالح؟
    ربما لم يعد السؤال عن الجامع بحد ذاته، بل عن البلاد بأسرها: هل لا يزال هناك متسع للتعدد، أم أن سوريا كلها في طريقها لتصبح “جامع الجكارة”؟