Author: عبود سيليا الكزبري

  • بين أدائية الجندر وصناعة ‘الآخر’

    بين أدائية الجندر وصناعة ‘الآخر’

    الأداء الجندري، صناعة الآخر، والانتهاك بحق المجموعات الجندرية المهمشة في المجتمع السوري

    توطئة. تاريخ المجتمعات لا يُكتب فقط عبر الأحداث السياسية الكبرى، بل من خلال حياة الأفراد وهوياتهم المتشابكة، عبر ممارساتهم اليومية ومعاناتهم ضد الأنظمة التي تسعى لإخضاعهم حتى وأن كانت هذه السلطة اجتماعية قبل أن تأخذ شكلها المؤسساتي وهنا أقصد الدولة. في سورية، كما في العديد من المجتمعات الأخرى، تُنتج السلطة خطاباً يُعيد إنتاج العنف ضد الفئات المهمشة، خصوصاً المجموعات الجندرية، حيث يتم استهدافهم عبر القوانين، والوصم الاجتماعي، والعنف الممنهج، كما وضح بيان ترانسات حول قمع العابرين والعابرات في سورية.

    هل الجندر هوية أم فعل قسري؟

    تُفكك جوديث بتلر في مفهوم الأداء الجندري (Gender Performativity) فكرة أن الجندر هو جوهر ثابت، وتدعي أنه مجرد فعل متكرر يُعاد إنتاجه داخل المنظومة الاجتماعية. بمعنى أن الأفراد لا “يكونون” رجالاً أو نساءً، بل “يؤدون” هذه الأدوار وفقاً لأنظمة الخطاب والمعايير الاجتماعية السائدة. هذا الأداء ليس حراً أو اختيارياً بالكامل، بل هو مشروط بالعقاب أو المكافأة الاجتماعية. فمن يؤدي دوره “بنجاح”، أي بما يتماشى مع الثنائية الجندرية المقبولة، ينال القبول، بينما من يخرج عن هذه القوالب يواجه الإقصاء والتهميش، أو حتى القمع والاضطهاد.

    في هذا السياق، يتم استبعاد أولئك الذين لا يتماشون مع هذه الأدوار، سواء بسبب هويتهم الجندرية أو ميولهم الجنسية، ويُنظر إليهم على أنهم “الآخر”، أي تهديد للنظام الثنائي للجندر (امرأة/رجل) والجنس (أنثى/ذكر). هذه الازدواجية ليست مجرد تنظيم اجتماعي، بل هي جزء من منظومة أيديولوجية تضمن استمرارية السلطة والسيطرة، حيث يتم تهميش أي هوية تقع خارج الثنائية الجندرية (امرأة/رجل).

    من هنا، تأتي الانتهاكات التي تمارس بحق الأفراد المختلفين، ليس فقط على المستوى القانوني أو المؤسسي، بل أيضاً في الحياة اليومية من خلال الإقصاء، والعنف الرمزي والمادي، والوصم الاجتماعي. هذه الانتهاكات ليست مجرد “أحداث فردية”، بل هي جزء من نظام أوسع يُعيد إنتاج العنف للحفاظ على الهياكل الجندرية القائمة.

    هالهياكل يلي بتتشكل عن طريق ما يعرف بالأدائية الجندرية كما وصفتها بتلر، لهيك إذا بدنا نبسط مفهوم الأدائية الجندرية، منكون بحاجة لاستعارة خشبة المسرح وتشبيه دور الممثل على خشبة هالمسرح بدور الفرد في المجتمع…وهيك فينا نشوف أنو المسرح هو المجتمع ككل وكل أفراد المجتمع هنن عبارة عن ممثلين لأدوارهم الجندرية يلي مشكلة مسبقا او مكتوب نصها من قبل أفراد آخرين بالمجتمع أو نتيجة ممارستها في جيل سابق أو نتيجة إرث ثقافي اجتماعي معين.

    في سورية، تُعيد السلطة إنتاج هذه الثنائية الجندرية من خلال مؤسسات الدولة، التعليم، والإعلام، التي تفرض تصورات معينة حول الذكورة والأنوثة – المعايير الخاصة في الرجال والمعايير الخاصة في النساء. لكن الأخطر، هو كيف يتحول هذا الإطار القسري إلى أداة لقمع المجموعات التي لا تمتثل لهذه القواعد، كما هو واضح في استهداف العابرين والعابرات جندرياً. 

    صناعة الآخر!

    تتطلب كل هوية مهيمنة “آخراً” تعرّف نفسها من خلاله. في المجتمعات التي تُقدّس الثنائية الجندرية والجنسانية المغايرة كمعيار وحيد – يتم تأكيده دينياً وثقافياً على الدوام، يُنظر إلى كل من يخرج عن هذه الحدود على أنه “غير طبيعي”، “منحرف/شاذ”، أو حتى “خطر”. وكما أشار إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، فإن الغرب صنع صورة “الآخر الشرقي” كأداة للسيطرة الاستعمارية، ويمكننا القول إن المجتمعات الأبوية تُنتج “الآخر الجندري” للحفاظ على نظامها القائم، مستخدمة نفس الأدوات القمعية التي شرعنتها أنظمة الاستعمار والنيوليبرالية الحديثة.

    في سياق الحكومة الانتقالية السورية (دون استثناء الحكومة التي سبقتها)، لا يتم فقط استبعاد العابرين والعابرات جندرياً من الاعتراف القانوني، بل يتم أيضاً تصدير خطاب يعتبرهم تهديداً للمجتمع، مبرراً بذلك العنف ضدهم. تتجلى هذه السردية في الفيديوهات التي وثّقت العنف الممارس ضد العابرات، حيث تعرّضن للإذلال والضرب والاعتقال في عدة محافظات سورية، في مشهد يكشف مدى تغلغل الذكورية الهشة في بنية السلطة والمجتمع. هذه الممارسات القمعية لم تُواجه بالرفض المجتمعي الواسع، بل على العكس، جرى التطبيع معها باعتبارها “مقبولة ومرحب بها” في سياق النظام الجندري السائد. من قام بتصوير ونشر هذه المشاهد كان بالتأكيد يدرك مسبقاً أنه سيحظى بالتأييد والتبرير الاجتماعي، وهو ما تجلّى بوضوح في التعليقات المشينة التي شجّعت هذه الأفعال، أو في الصمت الجماعي الذي أعقب انتشار مشاهد العنف. هذا الصمت لم يصدر فقط عن الأفراد الذين يمارسون العنف أو يبررونه، بل امتد ليشمل شرائح تدّعي رفض العنف بكل أشكاله، لكنها تتغاضى عنه حين يكون موجّهاً ضد “الآخر”، أي المجموعات الجندرية المهمشة التي يُنظر إليها كخارج عن النظام الاجتماعي المقبول، مما يعكس عمق الخوف والتردد في التضامن مع هذه المجموعات حتى من موقع رفض العنف ذاته.

    العنف الممنهج كأداة للهيمنة: من التشريع إلى التنفيذ

    الانتهاكات التي يتعرض لها العابرون والعابرات جندرياً في سورية ليست مجرد أفعال فردية، بل هي جزء من منظومة اجتماعية تُعيد إنتاج العنف للحفاظ على الحدود الجندرية. يتجلى ذلك من خلال القوانين التمييزية – حيث يتم استخدام التشريعات لتجريم الهويات غير النمطية، ومنع الاعتراف القانوني بالهويات العابرة جندرياً. العنف الجسدي والرمزي – الذي يظهر في جرائم الكراهية، الاعتداءات، والتنمر، لكنه يشمل أيضاً العنف غير المرئي كالإقصاء الاجتماعي والتشهير الإعلامي. التحكم في الأجساد – من خلال فرض ممارسات مثل العلاج القسري، أو خطاب الدولة والإعلام الذي يحرض ضد المجموعات الجندرية المهمشة، مما يشرعن العنف الاجتماعي ضدهم.

    ما نشهده اليوم في سورية ليس مجرد استهداف للمجموعات الجندرية، بل هو امتداد لاستراتيجية أوسع تُستخدم لقمع أي مجموعة تخرج عن المعايير التي تفرضها السلطة والتي ينتجها المجتمع في مرحلة سابقة. وكما أشار بيان ترانسات، فإن استمرار هذه الانتهاكات لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة الدولية للحكومة الانتقالية، ويكشف تواطؤها في تعزيز نظام استبدادي يُعيد إنتاج العنف بدلاً من بناء دولة قائمة على الحقوق والعدالة.

    مقاومة الأداء القسري وإعادة سرد التاريخ

    إذا كان الجندر فعلاً يُعاد إنتاجه عبر الأداء، فإن مقاومته تبدأ من إعادة تعريفه ورفض الامتثال للقواعد القسرية التي تُفرض على الأفراد. هذا يتطلب تفكيك الثنائية الجندرية، ليس فقط على مستوى الخطاب، ولكن من خلال تحدي القوانين والممارسات القمعية، وخلق فضاءات بديلة تعترف بالهويات الجندرية المتعددة. 

    في النهاية، الاعتراف بالهويات غير النمطية ليس مجرد “تسامح”، بل هو تفكيك لنظام قمعي يعيد إنتاج العنف تحت ستار “الطبيعة/المتعارف عليه/السائد” و”الأخلاق/الدين/الثقافة”. فهل يمكن أن نتصور مجتمعاً لا يُنتج الآخر كي يُبرر العنف ضده؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نطرحه، ليس فقط على السلطة، بل على أنفسنا أيضاً، في معركة استعادة السرديات الغائبة وخلق فضاءات شمولية تضمن تمثيل الأصوات المهمشة.


    المراجع والمقالات والمفاهيم التي تم الانطلاق منها في هذه التدوينة

    – نظرية الأدائية الجندرية لـ جوديث بتلر، ومفهوم الجندر كأداء اجتماعي. تحديدا في كتاب بتلر عن قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية (Gender Trouble).

    – كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد.

    – بيان ترانسات؛ الحكومة الانتقالية السورية وقمع العابرات والعابرين. https://drive.google.com/file/d/1qJmQhFneu5yWwGfW6wYM4JtozRkl-42m/view