حين تُسرق الأحلام

عندما أقف أمام الكلمة، أجدني في حيرة من أمري. أي قصة أروي؟ هل أروي عن علاقتي مع الأرض واللغة، تلك العلاقة السّامة المتأرجحة بين الحب والخذلان؟ أم أسرد حكايا دروب اللجوء والهجرة، دروب الشقاء والاكتئاب؟.

ماذا لو تركتُ فيان الطفلة تروي قصتها؟ عن يومها الأول في المدرسة، عن صوت المعلمة الغاضبة وهي تزعق بكلماتٍ لم أفهم منها شيئاً، كلماتٌ كأنها طلاسم نزلت فجأة على رأسي.

يومها، اكتشفتُ أن لغتي الأم مكروهة، بل ومرفوضة، وممنوعة. ومنذ ذلك اليوم البعيد من الطفولة بدأتُ أولى خطوات الاغتراب عن المكان الذي كان يُعتبر وطناً.

وبينما أغوص نحو مناطق مهجورة من الذاكرة، تتدافع أمامي صورٌ كثيرة، صور لا تروي فقط حكايتي أو حكاية شعبي، بل حكايةً بحجم الوطن.

هذه القصة لا تخص فرداً واحداً أو عائلة واحدة ، بل هي عن جيل كامل، عن أرض احتضنَتهم يوماً ثم لفظَتهم بعيداً، عن وطنٍ أصبح غريباً لأبنائه قبل أن يغدوا أبناؤه غرباء عنه.

كانا على مشارف التقاعد بعد أن أفنَيا عُمرَيهما مُتعبَيْن بين شوارع المدينة وصخبها، مُبعَدَيْن عن أرضهما، عن أرض التين والزيتون، تلك الطبيعة البِكر، النقيّة والأصيلة، والتي، على الرغم من كلِّ جمالها وكلِّ الدفء والأمان في هوائها، إلّا أنّها افتقرت إلى كل مقومات المستقبل الكريم، وعلى الرغم أن لتلك الأرض مدينتها، إلّا أنّها كانت مدينة مُهملة ومُهمّشة أشدّ تهميش. فهجرها أبناؤها نحو مدينةٍ مجاورة بإرادتهم التي ما كانت يوماً إرادتهم.

كانت تلك المدينة باردة وقاسية، مُغبرّة وجرداء من أشجارٍ لو زُرِعت لانقلب هواؤها الفاسد نسيماً عليلًا، واختفى الضباب والغمام عن أعين أهلها العابسين إنهاكاً. تلك الأعينٌ التي خبّأت خلفها الكثير من الخوف والقلق، ونشدت الأمان المفقود بصوت مكتوم.

تعلّما عملا وعاشا هناك. ورغم غمرة الركض اليومي بين الشوارع المزدحمة ، ظلّت قلوبهم عالقة بجذوع الزيتون العتيقة ، كانت أرواحهم تُحلّق نحوها كل عام مع أولى نسائم الربيع وكل موسمٍ للحصاد. كانا يحلمان دوماً ببيت صغير بين الحقول، بصباحٍ يبدأ بندى الأشجار، لا بأبواق السيارات المزعجة، وليلٍ يعمُّه سكون الطبيعة، لا صخب المدينة الذي لا يهدأ.

لم تمنحهم تلك المدينة خياراً آخر سوى النضال، ليس فقط لأجل لقمة العيش بل لأجل حقٍّ بسيطٍ في الحياة، للحفاظ على الهوية والجذور، فنبتت لهم مخالب وهم يحاربون حفاظاً على هويتهم، على ما تبقى من جذورهم. قاتلوا مع رفاقهم الخوف والظلم، في الغرف السرّية، وبأصواتٍ خافتة، تبادلوا كتب لغتهم الأم سراً، تعلّموها سراً واخفوها تحت الوسائد خوفاً من العيون المُتربصة، ناضلوا في العتمة ، وحاربوا بصمت ليحفظوا كرامتهم، وقوت أطفالهم الذي لطالما حُوربوا هم وأجدادهم به، حلموا بالحرّية، والكرامة، وبمستقبلٍ آمنٍ لأبنائهم. كانت أحلاماً صغيرة بصِغَر وجودهم في هذا الكون، لكنها كبيرة وواسعة باتساع آلام أرضهم وعُمقها.

كانا يراقبان أبناءهما يكبرون في هذه المدينة الصاخبة، يتعلمون لغتها، يسيرون في طرقاتها، يحلمون كما يحلم غيرهم، هذه المراقبة كانت تنم عن خوف عميق، خشية أن يذوب أبنائهم في صخب المدينة، أن ينسوا يوماً لون التراب ورائحة الزيتون، أن تغدوَ الأرض مجرد ذكرى بعيدة وتفقد أرواحهم أيّ حنينٍ لها.

وبعد سنوات طويلة من الشقاء، بعد أن استطاعا أن ينجزا لأبنائهما مستقبلاً لم يحظَ به آباؤهم، حلموا بالعودة إلى الزيتون، وتحقق الحلم، كانت الحياة قد تبَسّمت في وجوههم أخيراً، وجاءت لتبدأ للتو بعد أكثر من ثلاثين عام من النحت في الصخر.

كانا وكأنهما على موعد مع الجنة، بين كروم العنب وأشجار التوت، والتين ، والكرز والرمان، كان للواقف على سفح تلك الأرض أن يعانق بقلبه بحراً من أشجار الزيتون الممتدة على طول المدى، كانت السعادة مخبأة بين ثنايا ذلك البيت الريفي، البسيط، والمنسي على الحدود الشمالية الغربية للبلاد، البيت الذي بنَوه حجراً فوق حجر، وزيّنوه بكل ما يهواه قلبهم.

عاشا ببساطة، زرعا الأشجار وحصدا ثمارها بيديهما، تمشّيا بين الحقول كما كانا يفعلان في صباهما، احتسيا القهوة على شُرفة تطل على الحقول، واستمعا لصوت الريح وهي تعبر بين الأغصان، كان الزمن القصير الذي نعموا فيه بشيء من السعادة هناك، يضاهي أعمارهم السابقة واللاحقة.

لم تدم تلك الجنة طويلاً، فالشعوب المقهورة كانت دائماً على حق، حين اعتقدت أن لا قمر مكتمل، كان عليهم أن يخافوا من أفراحهم، فغالباً ما تلحقها المصائب، تلك البلاد هي بلاد أمجاد الماضي فقط، لا مكان فيها للمستقبل.ثم، أيُعقل أن يُبصر المُقهَرون أيَّ نورٍ في بلاد الكرامة المهدورة؟

لم تُهدَر في تلك البلاد الكرامة وحدها، بل هُدِرت الأرواح، وانهمر الدم سيلاً من كل زقاقٍ وطريق. لم يتصور أحد أن لكلمة “الحرّية” التي نطقوها وقعاً مخيفاً لهذه الدرجة، كلمةٌ من أربعة أحرف زلزلت البلاد بأشد الدرجات فتكاً، لم يتصور أحد مقدار الخراب الذي كان قابعاً خلف العيون وفي عُمق النفوس. اقتُلعَت الحناجر، سُلخَ الجّلد عن العظم ، نُهبت البيوت، وبِيعَت مقتنياتها بأبخس الأثمان على الأرصفة والطرقات.

اختطافٌ، وقتلٌ، وتجويع، كانت لحظة انهيار كشفت عن حجم الشرخ العميق بين طبقات المجتمع، ازداد الأغنياء غِنىً، وجلسوا في أبراجهم العاجية متفرجين ومستفيدين، بينما أفّرغت الطبقات الفقيرة والمسحوقة جُلّ حقدها على الطبقة المتوسطة، فدُهست الأخيرة تحت النعال والأقدام، وظهرت طبقة جديدة: طبقة الأبواق، الانتهازيين، وتُجّار الحرب.

لم يجدا مَنفذاً نحو الخلاص إلّا في الرحيل. تحوّلت مخالبهم التي نحتوا بها حياة أبنائهم لأجنحةٍ هَرمة، حملوا صورهم ورحلوا، حملوا الذاكرة فوق أكتافهم ورحلوا، تركوا أحلامهم خلف ظهورهم، لم يحملوا معهم سوى الغبار العالق بملابسهم، ووجوههم التي حفرت فيها الأيام خطوطاً من التعب والخذلان.

ذَبُل حقل الزيتون، جَفّت دالية العنب، وتشققت الأرض عطشاً، حتى بيتهم ذاك في الريف البعيد لم يصمد أمام زلزال الحرب، بل كان خرابه مدوّياً.

كانت لحظة لم يتوقعاها، يوم تسلل الغرباء إلى الذاكرة كما تسللوا إلى الأرض، أذكر يوم تلقَّيا صورة من هناك، أذكر كيف تكسّرت أسنانهما قهراً.

هما اللذان أصبحا منفيين وغريبين في كل الأماكن. هما اللذان فُجعا بأحلامهما، لم يقطِفا ثمار التّعب الطويل بل وجدا نفسيهما بين ليلة وضحاها على رُقعةٍ أُخرى بعيدة، ليبدأوا برفقة أبنائهما رحلة البدء من الصفر من جديد. وكأن الحياة تكرار أبدي ، وكأن الشقاء هو القاعدة والحلم استثناء.

وفي رواية أخرى.

أمضيا هما وكثيرون آخرون من أمثالهم جُلَّ حياتهم لأجل القضايا التي ناضلوا وقاتلوا من أجلها، لتُطمس أصواتهم فيما بعد، ولتتحول كل تلك المبادئ التي نادوا بها إلى سلعةٍ رخيصة تُباع وتُشترى في أسواق الساسة المنافقين.