لم يكن يومي الأول في المدرسة سهلاً. كما لم تكن يومياتي في مدينتي القامشلي/قامشلو سوى إعادة تكوين مستمر لما هو عليه الحال، بصعوباته وتعقيداته وعنفه. حالٌ احتاج إلى تمارين مستمرة مع الذاكرة، ومقاومة ما تسجله وصناعة مخيلة موازية عبر وسائل وآليات ممكنة لتخفيف جداريات الخوف والعنف وحواجز الألم التي تضغط جسدك الهش الذي ليس له وزن وسط تلك الأماكن التي تباعد بينك وبين شعورك بها والانتماء إليها. لم يكن الاغتراب يتشكل مرة واحدة في مدينة تشكلت على أساس بناء أكثر من حصار وأعمق من مجرد ابتعاث أنماط الخوف والتهديد الدائمين لأحد مكوناتها الرئيسية والتاريخية، وهم الكُرد.
عود على بدء. نعم، كان يومي الأول بالمدرسة معنوناً بالهرب. فقد كان شعور وكأنني غريبة حتى عن ذاتي، بينما العالم يدور من حولي دون أن أكون جزءًا منه أو هذا الجزء المرغوب في تواجده وبقائه على حاله كما هو. خرجت من البوابة الحديدية كأنما أفلت جسدي من شيئ مبهم وغامض، ورغبة في الاستقرار تحت وطأة ليس جحيماً إنما فقدان القدرة على الاستيعاب أو الاندماج. سألني حارس المدرسة أو آذن المدرسة كما نسميه: “لوين رايحة” فأجبت: “عالبيت عالبيت”. نعم كنت أريد البيت، الاحتماء من هوة وفاصل ليس فيه سوى طنين وأصداء مخيفة من حولك ترغمك دفعة واحدة أن تكون عربياً بالثقافة والهوية والقومية وحتى اللغة، أن تكون شخصاً آخر غير الذي أنت عليه، بقسوة وقسراً. ذلك ما عاناه كل كُردي في سوريا تحديداً، ومن دون التفتيش عن عبارات ذات بلاغة سياسية أو أدبية. فالواقع على مستوى وقائعه المادية الملموسة، وكذا المعنوية والرمزية، سواء ما يتصل بالبنية الاجتماعية والثقافية أو المؤسسات ونمطها الهيكلي والبنيوي، يؤشر إلى حمولات عنف وإقصاء تلقائيين ضد كل من يخالف الصفة القومية المؤدلجة لـ”البعث” في سوريا. بل إن أي انحراف عن هذا النمط وهندسته الاجتماعية المصنوعة أو رغبة في مقاومته، تعني حتماً إضعافك حد العجز، والتهميش حد التعمية عمداً عن وجودك، وتنتهي إلى الإبادة الناعمة والصاخبة في آن.
كنت أشبه الطفل في فيلم “جيران”، هذا الطفل “شيرو” الذي يتعرض لقمع وشتات، منذ دخوله المدرسة، فيتعرض للإهانات والضرب لعدم قدرته على الفهم باللغة العربية أو استعمالها. ورغم أن الفيلم يسجل حقبة تعود إلى ثمانينات القرن الماضي، إلا أن ذلك يؤشر إلى استمرار التغريبة الكُردية، التي لم تنته حتى في العقود التالية. فليس مسموحاً لك في سوريا البعث أن تكون كُردياً عادياً، تدندن أغنية للفنان الكُردي محمد شيخو، أو تتحدث مع ذاتك أو الآخرين إلا بطريقة واحدة ستتعملها بالعصا الغليظة والقسوة والسباب من ذاك المدرس المتجهم الذي جاء من دمشق أو المحافظات المركزية، لينقل مناطق الهامش من الجهل والظلامية إلى “البعث”.
ليس لك مجالٌ آخر للتفكير أو الخيال أو مساحة للتجريب واكتشاف العالم بالخبرة وبناء التجربة، إنما الاستجابة الفورية لتعاليم “الأب” و”القائد”، والانشغال في ما يراه ضروري أو حتمي أو مرحلي واستراتيجي، مثل عروبة سوريا وتحرير فلسطين والعدو في إسرائيل.
جاهزية العنف في سوريا ووفرته وفوائضه، كانت واضحة في تفاصيل الحياة اليومية للكُرد، باعتبارهم عنواناً بارزاً للقمع وآلياته في ظل سلطة البعث على مدار عقود ليست بالقليلة. فاللغة المتداولة بحذر ضمن نطاق العائلة بحيث لا تخترق الجدران وينتقل صداها أبعد من ذلك، حتى تظل تلك الجدران حاجز الأمان عن احتمالات الأذى اللا محدود وغير المتخيل، مثلها مثل الشارع والمدارس، وهما ضمن فضاءات المجال العام الذي لم يكن للحظة عاماً، ويتخوف الكُرد من تداول أزياءهم أو الاحتفال بأعيادهم، إنما ضيقاً ومراقباً ويخلق حدوداً لا يمكن تخطيها سوى ببطاقة شرعية هي العربي البعثي، وهي رقابة خفية ليست علانية. منتشرة مثل عدوى تسيطر على جهازك المناعي.
إذاً، التهميش الثقافي والعنف الرمزي، لهما الأثر المباشر في توليد الاغتراب، حيث إن بناء مصائد علانية أو خفية للكُرد، يتجاوز فكرة العنف المباشر أو بناء مجتمعات الهامش، إنما تجعل وجودك كفرد متوتراً، قلقاً، أو تضطر إلى الذوبان في ما هو عام ومشروع بالمعنيين السياسي والأيدولوجي. ففي المدرسة كانت لافتاتها وجدرانها كما مناهجها والأفراد العاملين بها، هم وسائط إكراه مباشرة عبر العملية التعليمية المؤسساتية لخلق الشعور بالانفصال عن خصوصية البيئة الاجتماعية وعزلك هوياتياً. فالانسحاب المباغت والتلقائي في اليوم الأول لي بالمدرسة، هو عملية هروب مؤقتة. حيث إنه، في المقابل، التطبيع هو المآل الطبيعي لحالات الحصار وتعميم الاستعمار الثقافي والسياسي، وعسكرة الأوضاع المدنية. ذلك لا ينفي ثنائية التطبيع والمقاومة، لكنها تظل مقاومة محدودة وتنخفض مستوياتها، خاصة مع الشعور بالفناء والتهديد الوجودي، والرغبة في الحفاظ على الجماعة وتكوينها الاجتماعي والثقافي على أساس ما هو محتمل وفي درجاته الدنيا أو حتى المدعومة وخلق مساحات معتمة، للإعلان عن الهوية الكُردية في الاحتفال بعيد النوروز بمكان بعيد، واختلاس لحظات انبساط والتحايل على الرموز واللغة والثقافة البعثية ومربعاتها الأمنية، لاختبار الحياة حتى لو بمشاعر وهن وعجز. فقط اختبار الحقيقة من دون إحساس الوقوف على الحافة، والتماس الوجود بذاكرة ليست انتقائية، وانفعالات طبيعية.
عام 2004، اندلعت انتفاضة القامشلي/قامشلو بعد أحداث العنف في مباراة كرة قدم، مما أدى إلى قمع أمني واسع، وسقوط ضحايا، واعتقالات كبيرة بحق النشطاء الأكراد. وقد كان ذلك الوضع نقطة عنف قصوى في سياق تاريخ مليئ بالقمع والتمييز، سبقه الحرمان من الجنسية ومشروع “الحزام العربي” وتعريب المناطق الكُردية، وغلق المنظمات الاجتماعية والسياسية والثقافية الكُردية، وتوطين عشائر عربية في شريط يمتد على طول الحدود مع تركيا. كما تم تهجير آلاف العائلات الكُردية من قراها، وصودرت أراضيهم لصالح المستوطنين العرب، مما غير التركيبة الديموغرافية للمنطقة. وكان مجرد التحدث بالكُردية أو رفع الأعلام الكُردية أو حتى الألوان التي تدل على أعلامهم يُعد جريمة يعاقب عليها القانون.
منذ وصول حزب البعث إلى الحكم، انتهج سياسة التمييز والقمع ضد الأكراد، سواء بحرمانهم من الحقوق المدنية، أو تهجيرهم، وقمع لغتهم وثقافتهم، أو من خلال الاعتقالات والاغتيالات. وبعد 2011، تغيرت الأوضاع جزئياً، لكن النظام السوري البائد ظل متورطاً في استهداف النشطاء والقيادات الكُردية، واستمر في قمع أي تطلعات كُردية للاستقلال أو الإدارة الذاتية.
غير أن المسألة الكُردية على مستوى الفرد، ليست في الحقوق الثقافية أو التاريخية أو قطعة جغرافية في خريطة متخمة بالنزاعات المتفاوتة، إنما هي كل ذلك، مع فض النزاع حول ما راكمته الأنظمة القمعية بشأن الرموز الثقافية والمعنوية بالفضاء العام التي ما تزال لها قدرة على تحقيق الألم، وتعيينه في مجالات رقابتها المتعددة لكل من يخالف المعايير العامة والمتسيدة، وتمارس قدرتها على تدمير أي تراث مغاير والانقطاع التاريخي عنه.
وما زال شعوري العام إزاء كل هذا، هي مقاومة آليات الإبادة الناعمة، الثقافية الرمزية والهوياتية، والتعافي من آثار تبديد الهوية، والذي يبرز، مثلاً، في القمع اللغوي الذي ترك آثاره في قدرتي على التعبير بالكلية ومرونة باللغة الأم الكُردية عن أفكاري ومشاعري، لا سيما مع تراكم الخوف وتوليده الدائم كلما حاولت تمرير اللغة على لساني وترديدها بتلقائية ومن دون هواجس مختلفة مريرة. وليس خافياً، أن اللغة الكُردية ذاتها تعاني بنيوياً من ضعف وعدم تطور مع عقود التهميش وعدم قدرة أبنائها على استعمالها، في حين لم تكن هي الحامل الهوياتي لهم للتعبير عن ذواتهم، سواء كان نثراً أو شعراً أو حتى في يومياتهم العادية. نسبة ليست بالقليلة من الكُرد لا تجيد الكتابة بالكُردية، مثلاً، إنما استعمالها شفاهة.
هذه المعاناة بجملتها، التي تغيبت فيها عملية تداول اللغة في المؤسسات التعليمية والثقافية، وبرامج الإعلام، وكذا بالمجال العام، نجم عنها التذويب القسري، والاحتواء الثقافي، بحيث تم تدمير ثقافة شعب من دون الحاجة إلى العنف المباشر. وقد مورست هذه الإبادة غير الصاخبة عبر حرمان الكُرد من لغتهم في المدارس، وتضييق فرص تسمية أبنائهم بأسماء كُردية، وتعميم العربية، بما خلق شعوراً بـ”منفى داخلي”.
ذلك ما عبر عنه عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي بيير بورديو في كتابه: “الهيمنة الذكورية”، بأن القوة الأكثر فاعلية هي تلك التي تمارس من دون عنف ظاهر، حيث يتبنى المقهور سردية الآخر الذي يفرض مؤسسة القهر. وتتعمق مشاعر الاغتراب أو بالأحرى تفاقمها تبني صورة سلبية عن الذات. بالتالي، فإن إدارة المجال العام وهندسة المجتمع من خلال مؤسسات لها الصفة المسيسة والأيدولوجية في سوريا البعث، لم يكن سوى استراتيجية لإحداث الإقصاء وتوليد قوى خفية تمارس عبر الرموز والتصورات الثقافية، ما يجعل الأفراد تحت وطأة وهيمنة نمط معين من التفكير وداخل الجهاز المفاهيمي، بقيمه ورموزه، وذلك من دون وعي أو قدرة على تجاوز أو التحرر من الإكراهات.
ويمكن القول إن أمننة أو عسكرة المسألة الكُردية وكذا فرض “حزام عربي” حول مناطقهم والتغيير الديمغرافي، ليس حدثاً مؤسساً، ولا يمكن أن يكون بفعالية ما أحدثته آليات أخرى مماثلة في القمع، لكنها تحقق نتائج أكثر فداحة، تحديداً ما يتصل باللغة، المناهج الدراسية، الإعلام، والأيديولوجيا السائدة، حيث ترافقك مشاعر أن الثقافة المهمشة، ثقافتك، هويتك، لغتك، بأنها أقل شأناً أو حتى غير موجودة، ففي حال التفكير بها بصمت تخرج من حيز الوجود إلى الإحساس بالتخفي أو الهرب وكأنما فقدت شرط الوجود أو على وشك!.
فالكُردي داخل هذه التأثيرات والإكراهات المختلفة والحصار الممتد يبدو منفياً عن ذاته، بينما يرى العالم من جهة الطرف الذي يضطهده ويسعى إلى إرغامه على التطبيع والقبول بالهيمنة. فمع رفض التعلم باللغة الأم وحتى تداولها اجتماعياً وثقافياً، تم بتر الصلة بالتراث، بما ولد لدى الكُرد إحساساً وكأنهم بلا جذور، وقد عمّق ذلك الفجوة بين الهوية الفردية والجمعية. غير أن المقاومة اللاحقة لم تؤدي إلى تصفية هذا الشعور، شعوره بالرفض والتهديد، أو ترممه بشكل كامل، وظل الإحساس نتيجة الرفض والنبذ والإقصاء يرافق محاولات الكُردي للبحث عن بدائل العزلة والاحتماء بالهوية، هويته، حتى كانت مشاعره غائمة. فمتلازمة الإحساس بأنك خارج المكان، غريب أو مغترب، سبقت معرفتي بالإحصاء الاستثنائي في الحسكة الذي أفقد فيه البعث مئات الألوف من الكُرد صفة المواطنة، ولهذا الهروب من المدرسة والتخفي من المجال العام، هما مشاعر تلقائية نتيجة هندسة اجتماعية قائمة على سردية ورموز محددة تؤدي نتائجها بفعالية ومباشرة في تحقيق الطاعة.
وفي كتابه الاستشراق، يوضح إدوارد سعيد أن القوى المهيمنة، حتماً، ما تفرض تصوراتها على القوى التي تمارس ضدها العزلة والتهميش، مما يجعلهم يشعرون أنهم خارج نطاق التأثير السياسي أو الاجتماعي.
لكن، تظل ثنائية المقاومة وإعادة تشكيل أو بناء أو استرداد الهوية، قائمة رغم كل تلك المعاناة وسيرة الآلام، حيث إن التهميش الهوياتي والثقافي وفي الحالة الكُردية، لم يكن دوماً في موقع الضحية بل سعى إلى أن يبدل مواقعة ويكون أداة مقاومة، وهو ما نلمسه راهناً بمحاولات إحياء اللغة الكُردية، والاحتفاء بها، وإعادة كتابة السردية التاريخية خارج إرادات السيادة العليا سياسياً ومؤسساتها.
ولئن يقول المفكر اللبناني مهدي عامل في كتابه: “الدولة الطائفية”، إن المهمشين ليسوا هم من يعيشون خارج التاريخ، بل الذين يُجبرون على العيش في هوامشه، حيث تُصادر أصواتهم وأحلامهم، فإن الأصوات والأحلام لها قابلية أخرى غير القبول بالطمس أو الإبادة على وقع الانسداد الذي يخلق التاريخ أو السرديات الكبرى والرسمية، وما تزال هناك رغبة في تشكيل وعي آخر غير وعي المغلوب والمتفوق أو ثنائية الغالب والمغلوب.